الأخبار

داود عمر داود : أمريكا تتحايل على سوء توزيع الثروة بتوزيع المناصب السياسية

داود عمر داود : أمريكا تتحايل على سوء توزيع الثروة بتوزيع المناصب السياسية
أخبارنا :  

المعضلة الأمريكية:
ما يجري في أمريكا، بين الحين والآخر، هي محاولات لإصلاح، أو ترقيع، أو إطالة أمد النظام السياسي القائم بوسائل شتى. فالطبقة الحاكمة، في أمريكا، لا تشكل سوى 1% من السكان، تستحوذ على 99% من ثروات البلاد، بينما باقي السكان يعيشون على الفتات. تُسمى هذه الطبقة "واسب" (wasp)، وهي كلمة تختصر الاسم الكامل وهو: White Anglo-Saxon Protestant، وتعني "البروتستانت الأنجلو ساكسون البيض". وهي أقلية، مختلفٌ حول عددها بالضبط، خاصة مع تزايد التنوع الديني والعرقي هناك.

وتتشكل طبقة الـ "واسب" من الأمريكيين البيض من الأصول الأوروبية الشمالية، خاصة الإنجليزية، الذين ينتمون إلى الديانة البروتستانتية. ومن ناحية تاريخية فإن هذه الطبقة هي التي تهيمن على الاقتصاد والثقافة والسياسة، في الولايات المتحدة الأمريكية. فالسياسيون والحكام بشكل عام منها، سواءٌ على المستوى المحلي في الولايات، أو على المستوى القومي الفيدرالي في واشنطن. ومنها أيضاً رجال الصحافة والإعلام والثقافة والعلم.

سوء توزيع الثروة هو سبب الصراع السياسي والاجتماعي القائم هناك، بين من يملكون كل شيء، ومن لا يملكون أي شيء. ويعبرون عنه بالانجليزية: The Have & The Have Nots. وهذه هي بالضبط المعضلة الأمريكية.

إنتاج النخب: "ظاهرة ممداني" وقبلها "ظاهرة أوباما":
لذلك أخذت الطبقة الأمريكية الحاكمة تخطط لامتصاص الغضب الشعبي عليها، الذي يطالب بحقه في الثروة، وذلك من أجل تجنب الانفجار الاجتماعي، بثورة، أو بحرب أهلية، أو أي نوع من الانقسامات الاجتماعية أو السياسية، التي ستُعرّض كينونة الاتحاد للخطر، كانفصال بعض الولايات الكبرى المهمة التي تهدد بذلك، منذ عقود، مثل كاليفورنيا وتكساس.

ولمعالجة هذه المعضلة العصيبة، كما يبدو، لجأت الطبقة الحاكمة إلى أُسلوب "إنتاجِ نخب جديدة"، تقوم بإبرازها، ويجري تفصيلها على المقاس الذي تريد، ثم توزع المناصب السياسية على هذه النخب، وذلك عوضاً عن وبدلاً من "توزيع الثروة" بين السكان، ظناً أن مثل هذه الاجراءات الشكلية ربما تخمد الغضب الكامن في صدور ونفوس الأغلبية الساحقة، ولو مؤقتاً.

حملة ممداني قامت على المطالبة بتوزيع الثروة:
وهكذا فإن حملة "زهران ممداني"، الرئيس المنتخب لبلدية نيويورك، تزامنت مع حملة إعلامية اكتسحت العالم. لكن يتضح أن "ظاهرة ممداني" اختلقتها الدولة العميقة هناك لامتصاص الغضب المتنامي على النظام القائم، بجلب مهاجر شاب، 33 عاماً، يحكم مدينة نيويورك، الأهم في أمريكا، وربما في العالم.

وسوء توزيع الثروة، كان من المواضيع التي طالما اهتم بها، وتحدث عنها، الرئيس الأسبق الأسود "باراك أوباما"، من أب إفريقي مهاجر هو الآخر، والذي اعترف، بعد 8 سنوات وهو على رأس السلطة التنفيذية، بأنه فشل تماماً في تحريك هذا الملف. خاصة أنه أمضى سنين طويلة من عمره متطوعاً في خدمة الفقراء والمحتاجين، من السود، في الجزء الجنوبي من مدينة شيكاغو، حيث يتركز الأمريكيون من أصل إفريقي.


كل ذلك ضمن محاولات للحفاظ على تماسك المجتمع والنظام، ولتجنيب البلاد أية اهتزازات داخلية تشكل خطراً على وحدتها، وللحفاظ على الاستقرار السياسي، وعدم تعريض النظام لأية مخاطر. فالدولة العميقة هي نفسها التي تقوم بإنتاجِ نخبٍ جديدةٍ، لهذا الغرض، أمثال ممداني وأوباما، وغيرهما أقل شهرة.

لذلك دائماً ما تستبق الدولة العميقة الأحداث، وتقوم بتغييرات، تبدو عميقة و"ثورية"، لكنها مصطنعة للحيلولة دون قيام تغييرات حقيقية داخلية تهدد النظام القائم. فتجنيب البلاد الخطر الداخلي هو هاجس الدولة العميقة. وهذا درس تعلمته أمريكا من حربها الأهلية، التي اندلعت عام 1861 واستمرت لغاية 1865، وكادت تؤدي إلى تفكك الاتحاد. أما الخطر الخارجي فهي كفيلة به، وقادرة على التصدي له.

ومن هنا جاءت "ظاهرة زهران ممداني"، التي لم تكن هي الوحيدة، بل كانت الأشهر، والأبرز في التغطية الإعلامية، من بين 38 عربياً ومسلماً فازوا بمناصب عليا ورفيعة في ولايات مختلفة. وهذا دليل قوي على أن المسألة لم تأتِ صدفةً، بل كان مخططاً لها بدقة، وعلى نطاق واسع، هذه المرة.

وقد قامت حملة "ممداني" أصلاً على المطالبة بتوزيع الثروة في نيويورك، وبحقوق سكان المدينة في العيش بكرامة. وذلك نظراً لارتفاع كلفة المعيشة عموماً، كإيجارات السكن، وأجور المواصلات، وارتفاع أسعار المواد الغذائية. وكان شعاره في ذلك "من يعمل في نيويورك يجب أن يكون قادراً على العيش فيها".

"أوباما" حاول معالجة سوء توزيع الثروة:
في خطابه الوداعي الذي ألقاه "أُوباما"، في 10/1/2017، قبيل أيامٍ من انتهاء ولايته الثانية، والذي ألقاه في شيكاغو، مدينته التي أرسلته إلى واشنطن كعضو في مجلس الشيوخ، قبل الرئاسة، تناول بإسهاب موضوع "سوء توزيع الثروة"، الذي شغل باله خلال السنوات الثماني التي أمضاها في البيت الأبيض.

واعترف "أوباما" بانه لم يعمل ما فيه الكفاية بخصوص "سوء توزيع الثروة"، واصفاً الوضع بأنه "عندما يزدهر قلة على حساب الطبقة المتوسطة المتنامية"، فإن "التفاوت الصارخ" بين الطبقات الاجتماعية يُضر بالديمقراطية.

وذكر أنه "في حين أن 1% من السكان قد جمعوا حصة أكبر من الثروة والدخل ... فيما تُركت خلف الركب العديد من العائلات في المدن الداخلية والمقاطعات الريفية، وعامل المصنع، وعامل الرعاية الصحية، وهؤلاء مقتنعين بأن اللعبة مدبرة ضدهم، وأن حكومتهم لا تخدم سوى مصالح الأقوياء".

"الخلاصة: النظام الرأسمالي يحمل بذور فنائه:
وختم أوباما خطابه الأخير كرئيس، مطالباً بـ "صياغة عقد اجتماعي جديد"، في الولايات المتحدة. وها قد مضت قرابة عشر سنوات على ذلك، لم يحصل أي شيء من هذا القبيل، ولن يحصل. لكن الذي حصل من جانب الطبقة الحاكمة أنها لجأت لتكرار "ظاهرة أوباما"، بان جاءت بـ "زهران ممداني" وغيره لتوزيع المناصب السياسية بدلاً من توزيع الثروة. هذه المعالجات من قبل المؤسسة الحاكمة في أمريكا، هي معالجات سطحية وشكلية ولا تستطيع على المدى البعيد تجنيب النظام السياسي المخاطر.

فلا يمكن لأي نظام رأسمالي أن يعالج سوء توزيع الثروة، إلا بتحقيق العدالة الاجتماعية بشكل جدي بين الناس. وهذا لا يحدث إلا بتغيير جذري في مفاهيم النظام، عند ذلك يمكن أن يأخذ من الأغنياء ويعطي الفقراء، فيتحول المجتمع كله إلى مجتمع تكافل. أما أن تلجأ الدولة العميقة إلى "توزيع المناصب" بدلاً من "توزيع الثروة"، فهذا لن يحقق لها سوى الفشل. وهذه هي بذرة من بذور الفشل على المدى البعيد.

مواضيع قد تهمك