م. سعيد بهاء المصري يكتب : مفاهيم الرقمنة والذكاء الاصطناعي والاقتصاد الإدراكي
الثورة الرقمية… ماذا تعني؟
عندما نتحدث عن "الرقمنة” أو "الثورة الصناعية الرابعة”، فنحن لا نتحدث عن الهواتف الذكية أو الإنترنت فقط، بل عن بنية كاملة تُحول العالم إلى شبكة معلوماتية متصلة.
هذه الثورة تقوم على تقنيات تنتج البيانات بشكل مستمر:
- الإنترنت السريع الذي يجعل تبادل المعلومات لحظيًا
- الحوسبة السحابية التي أصبحت المقر الرئيسي الذي تُخزّن فيه بيانات الدول والشركات
- أجهزة الاستشعار التي تقيس كل شيء: حركة، حرارة، رطوبة، صوت، سرعة
- الأقمار الصناعية وأنظمة GPS التي تراقب الحركة والتنقل
- الروبوتات والطائرات بدون طيار التي تجمع الصور والمعلومات
- مراكز البيانات التي تشبه خزائن ضخمة للأسرار الرقمية
- شبكات الجيل الخامس التي تغذّي كل ذلك بسرعة واستقرار
هذه الأدوات تشبه "عيونًا وآذانًا رقمية” تراقب العالم لحظة بلحظة، لتصنع المادة الخام للذكاء الاصطناعي.
البيانات… المادة الخام للذكاء الاصطناعي
قبل أن يعمل الذكاء الاصطناعي، يحتاج إلى معرفة، وهذه المعرفة تأتي من البيانات.
ما هي هذه البيانات؟
هي ببساطة: كل ما يفعله الإنسان، وكل ما يحدث في الطبيعة، وكل ما تديره الحكومات والشركات.
مثلًا:
- بيانات المزارع: التربة، الرياح، الرطوبة، الأمراض
- بيانات المستشفيات: السجلات الطبية، التحاليل، المؤشرات الحيوية
- بيانات النقل: الازدحام، السرعات، الأعطال
- بيانات المالية: الشراء، الدخل، الإنفاق
- بيانات المستهلك: السلوك، التفضيلات، أنماط الاستخدام
- بيانات البيئة والمناخ
- وحتى صور الطرق، فيديوهات الكاميرات، تحركات الناس
كل هذه المعلومات حين تُجمع وتُنظّم، تصبح "وقودًا” يشغّل أنظمة الذكاء الاصطناعي ليعمل كعقل قادر على التفكير وصنع القرار.
كيف تعمل المنظومة الرقمية الإدراكية؟
لنفترض أنك تريد فهم كيف يتخذ الذكاء الاصطناعي قرارًا. العملية تمرّ بأربع مراحل:
أولًا: جمع البيانات
من حساسات في مزارع، كاميرات في الشوارع، عدادات الكهرباء الذكية، تطبيقات الهواتف، أو منصات الحكومة الإلكترونية.
هذه المرحلة تشبه "البصر” في جسم الإنسان.
ثانيًا: تخزين البيانات وتنظيمها
تنتقل البيانات إلى مراكز بيانات ضخمة تشبه "المكتبة الوطنية الرقمية”.
إذا لم تُخزّن البيانات في مكان واحد وبطريقة منظمة، تصبح بلا قيمة، مثل أوراق مبعثرة لا يستطيع أحد قراءتها.
ثالثًا: مرحلة الإدراك
هنا يأتي دور الذكاء الاصطناعي: يتعلم من البيانات، يقارن بين الأنماط، يتوقع المستقبل، يتعرف على المخاطر، يقترح حلولًا، أو يصدر القرار مباشرة.
إنها المرحلة التي يصبح فيها النظام مفكرًا وليس مجرد آلة.
رابعًا: اتخاذ القرار أو إرسال التوصية
النظام يخبر الطبيب بما لم ينتبه له، أو يوجه المزارع للري غدًا، أو يغيّر توقيت الإشارة الضوئية، أو يكشف عملية احتيال مالي خلال ثانية.
هكذا تعمل المنظومة الإدراكية الحديثة.
استخدامات الثورة الرقمية في حياتنا اليومية
في الزراعة
أجهزة استشعار على عمق 30 سم في التربة تقيس الرطوبة والحرارة، وطائرات مسيّرة تلتقط صورًا للحقول، وذكاء اصطناعي يحلل ويقرر: "الري سيكون بعد 16 ساعة، وليس اليوم.”
النتيجة: ماء أقل – إنتاج أعلى – مرض يتم كشفه قبل ظهوره.
في الصحة
أجهزة مراقبة منزلية ترسل بيانات المريض إلى طبيبه تلقائيًا، والخوارزمية تكتشف مؤشرات مرضية قبل أن تظهر على التحليل التقليدي.
في النقل
الكاميرات ترسل بيانات الازدحام، والنظام يعدّل الإشارات تلقائيًا دون تدخل بشري.
في التعليم
لم يعد المحتوى واحدًا للجميع؛ كل طالب يحصل على "منهاج خاص به”، بناءً على أدائه وسرعة تعلمه.
في الحكومة
النظام يتنبأ بمن هم تحت خط الفقر، ومن يتهرب ضريبيًا، وبالمناطق ذات الخطر البيئي، وبالمساعدات الاجتماعية المستحقة، فيحصل صانع القرار على خريطة ذكية للواقع… وليس أوراقًا قديمة.
المشكلة في الأردن والدول النامية: ليست تقنية… بل ذهنية
المشكلة ليست في توفر التكنولوجيا — فالعالم اليوم مفتوح — بل في طريقة التفكير والبناء المؤسسي.
أولًا: غياب منظومة بيانات وطنية موحدة
كل وزارة تعمل كأنها جزيرة منفصلة، بلا ربط حقيقي أو منصة وطنية موحدة للبيانات.
ثانيًا: ضعف الثقافة الرقمية
جزء من الموظفين يرفض التغيير، ويعتبر الأنظمة عبئًا إضافيًا، بدل أن يراها أداة لتسهيل عمله وتحسين قراره.
ثالثًا: غياب مراكز البيانات المتطورة
ما زلنا نعتمد على خوادم متفرقة بدل بنية وطنية رقمية قوية.
رابعًا: قرارات تُبنى على الانطباع
بدل الاعتماد على تحليل البيانات والنماذج العلمية.
خامسًا: غياب رؤية موحدة للذكاء الاصطناعي
كل جهة تعمل وحدها، دون استراتيجية وطنية متكاملة تجعل الذكاء الاصطناعي جزءًا من الاقتصاد والإدارة والتعليم والصحة.
ماذا نحتاج لندخل العصر الإدراكي؟
الدخول الحقيقي إلى العصر الإدراكي يتطلب أكثر من شراء أنظمة أو إطلاق شعارات.
نحتاج إلى منصة بيانات وطنية تربط الوزارات والمؤسسات، وإلى بنية تحتية واسعة لأجهزة الاستشعار والطائرات المسيّرة في الزراعة والمياه والطاقة والنقل، وإلى تدريب عشرات الآلاف من الموظفين على مهارات التحليل الرقمي وتشغيل الأنظمة الذكية.
كما نحتاج إلى تعليم جديد يربّي الطالب على التفكير التحليلي، لا على الحفظ، وإلى بيئة تشجّع الابتكار وريادة الأعمال في المجالات الرقمية، وإلى تشريعات تحمي البيانات وتضمن استخدامها بما يخدم المصلحة الوطنية.
كل ذلك لا يحدث في سنة أو سنتين، بل يحتاج إلى رؤية واضحة والتزام سياسي وإداري طويل الأمد.
ما المطلوب من الإنسان الأردني؟
النجاح في هذا التحول لا يمكن أن يكون قرارًا حكوميًا فقط، بل هو مشروع مجتمعي يبدأ من الإنسان نفسه.
على المواطن الأردني أن يتعلّم أساسيات التعامل مع الأدوات الرقمية، وأن يفهم أن الخدمات الإلكترونية ليست تعقيدًا بل اختصارًا للوقت والجهد، وأن يطوّر مهاراته كي لا تبقى وظيفته رهينة لأساليب قديمة قابلة للاستبدال.
وعلى الموظف الحكومي أن يدرك أن دوره يتحوّل من "منفّذ إجراءات” إلى "مشغّل أنظمة ذكية” ومتخذ قرار يعتمد على الأدلة، وأن مقاومة التغيير الرقمي تعني إبطاء تقدم بلده وتقليص فرصه هو شخصيًا في البقاء فاعلًا داخل هذا التحول.
أما الشباب، فهم رأس المال الحقيقي للعصر الرقمي؛ كل ساعة يستثمرونها في تعلّم مهارة رقمية جديدة، أو لغة برمجة، أو أداة تحليل بيانات، هي استثمار مباشر في مستقبلهم ومستقبل وطنهم.
الخلاصة
الرقمنة ليست مجرد أجهزة، والبيانات ليست أرقامًا صامتة، والذكاء الاصطناعي ليس روبوتًا خياليًا.
إنها منظومة حياة كاملة ستعيد تشكيل الزراعة والصحة والنقل والتعليم والإدارة الحكومية والاقتصاد، بل وطريقة تفكيرنا ذاتها.
والأردن أمام فرصة تاريخية: إما أن يدخل هذا العالم بثقة واستعداد، وإما أن يتأخر عنه سنوات طويلة.
القرار يبدأ من الوعي، ومن فهم هذه المفاهيم البسيطة التي تشكّل لغة المستقبل.