الأخبار

خاود عبد الرزاق طبيشات : تمكين البلديات لتنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي: البناء على تجربة MSSRP

خاود عبد الرزاق طبيشات : تمكين البلديات لتنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي: البناء على تجربة MSSRP
أخبارنا :  

منذ سنوات، أثبت مشروع الخدمات البلدية والتكيّف الاجتماعي (MSSRP)، المموّل من البنك الدولي، أن البلديات ليست عبئًا على الدولة، بل فرصة ضائعة باستمرار. امتلكت هذه البلديات القدرة على التنفيذ، والجرأة على الابتكار، والاستعداد لتحمل المسؤولية. لكن التجربة كشفت شيئًا آخر: أن غياب القيادة المركزية الواعية، والتنسيق المؤسسي الجاد، قد يحوّل أي مبادرة ناجحة إلى مجرد استثناء عابر.

خلال ستة أعوام، اكتسبنا معرفة معمقة، أدوات عملية، وأمثلة حية من الميدان. لا ينقصنا الدليل، بل القرار. لدينا زخم حقيقي بدأ يتبدد، ليس بسبب نقص التمويل، بل بسبب غياب السياسات التي تحترم ما تحقق وتبني عليه. التحدي اليوم ليس في استنساخ MSSRP، بل في استخلاص روحه وتوسيعها إلى مبادرة وطنية تواكب رؤية التحديث الاقتصادي، لا تظل خارجها.

الإنجازات: بلديات فعّالة عندما تتوفر الشروط

على مدى ست سنوات (2018–2024)، شاركت 27 بلدية من أصل 28 بلدية مستهدفة في تنفيذ 84 مشروعًا فرعيًا ضمن مشروع الخدمات البلدية والتكيّف الاجتماعي (MSSRP)، بقيمة إجمالية تقارب 34 مليون دولار أمريكي، أي ما يمثل نحو 12% من الإنفاق الرأسمالي الكلي لتلك البلديات خلال فترة التنفيذ.

شملت هذه المشاريع تحسين البنية التحتية (مثل الطرق، الإنارة، والصرف)، وتأهيل المرافق العامة (كالمتنزهات والمراكز المجتمعية)، وتوفير فرص عمل مؤقتة لفئات متنوعة، مما ساعد على تنشيط الاقتصاد المحلي والتقليل من البطالة والتوترات الاجتماعية، خاصة في البلديات من الفئات "ب" و"ج" التي استفادت بشكل كبير من المنح.

كما أسهم المشروع في تعزيز مرونة البلديات خلال جائحة كورونا، من خلال تمويل تدخلات الصحة العامة وضمان استمرارية الخدمات، مما برهن على أن البلديات قادرة على الاستجابة الفعالة في أوقات الأزمات، متى ما توفرت الموارد والإدارة السليمة.

يعتمد هذا التحليل على الدراسة النهائية لتقييم المشروع، والتي أُنجزت في مطلع عام 2025، بالاستناد إلى أدوات تقييم ميدانية، وتحليل مالي معمق، ومشاورات موسعة مع البلديات المعنية.

التحديات: الأثر المؤسسي لم يترسّخ

رغم الإنجازات التي حققها مشروع MSSRP، كشفت التجربة عن تحديات مؤسسية عميقة حدّت من استدامة الأثر بعد انتهاء التمويل. أبرز هذه التحديات تمثلت في غياب الحوكمة الفاعلة، وضعف التنسيق بين وحدة إدارة المشروع والجهات الشريكة، ووجود فجوات واضحة في الهيكل التنفيذي والقدرات الفنية، مما أدى إلى بطء في اتخاذ القرارات وتأخيرات ملحوظة في إنجاز عدد من المشاريع الفرعية.

هذه الإشكالات الإدارية والبيروقراطية أعاقت تحقيق الأثر الكامل المرجو خلال عمر المشروع، خاصة مع غياب آليات مؤسسية تضمن استمرارية النتائج. فعلى الرغم من تطوير أدوات نوعية خلال التنفيذ — مثل نماذج تصنيف المشاريع البيئية والاجتماعية، وآليات التعامل مع شكاوى المواطنين، وقوالب المتابعة والتقييم — لم تُدمج هذه الأدوات ضمن إجراءات العمل الروتيني للبلديات، ولم يُرسخ استخدامها رسميًا في النظام الإداري.

في المقابل، ركّز المشروع على بناء القدرات الفردية من خلال التدريب والممارسة الميدانية، دون أن يقترن ذلك بتغيير مؤسسي منظم يضمن انتقال المعرفة إلى منظومة عمل متكاملة. وهكذا، بقي الأثر محدودًا في الأفراد، دون أن يتحوّل إلى ممارسة مؤسسية مستدامة.

يشدد تقييم المشروع النهائي على ضرورة استمرار الدعم، ليس فقط لتعزيز المهارات، بل لضمان دمج الأدوات والمنهجيات المطوّرة في صلب العمليات البلدية، بما يرسّخ المكاسب المحققة ويحول دون تلاشيها مع مرور الوقت أو تغير الإدارات.

صندوق الابتكار البلدي: مبادرة طموحة لم تكتمل

أُطلِق صندوق الابتكار البلدي عام 2019 كأول تجربة من نوعها على مستوى المنطقة، بهدف تحفيز البلديات على تقديم حلول تنموية مبتكرة بالشراكة مع القطاع الخاص. وقد شهدت المرحلة الأولى اهتمامًا واسعًا، حيث تقدّمت 25 بلدية بـ 30 مقترحًا، ووصلت 9 مشاريع إلى مرحلة الموافقة الرسمية.

لكن عمليًا، لم يكتمل تنفيذ سوى مشروعين فقط خلال فترة المشروع، فيما أُلغي أو توقّف الباقي لأسباب متعددة. خلص تقييم المشروع إلى أن الفكرة كانت رائدة، لكن تنفيذها تعرقل بفعل عقبات هيكلية وتشريعية، تمثلت في:

غياب بيئة مؤسسية وتشريعية مرنة تحفز شراكات البلديات مع القطاع الخاص.

تأخر إقرار الدراسات البيئية والاجتماعية (ESIA/ESMP)، ما أدى إلى فقدان اهتمام المستثمرين.

تعامل وحدة إدارة المشروع مع المبادرة بمنطق إنشائي تقليدي، لا بمنطق استثماري، مع ضعف في التخطيط التشغيلي طويل الأمد.

ومع ذلك، أظهرت المبادرة استعدادًا عاليًا لدى البلديات للتجريب والتفكير خارج الإطار التقليدي، كما اكتسب عدد منها خبرة أولية في التواصل مع المستثمرين، وبدأت بتعلّم متطلبات التصميم المالي والقانوني لمشاريع الشراكة.

تُظهر التجربة أن إطلاق أدوات ابتكار في البيئة البلدية يتطلب أكثر من التمويل: إنه يحتاج إلى هيكل مؤسسي مرن، دعم فني متخصص، وبيئة تنظيمية تشجع المخاطرة المدروسة. ورغم محدودية النتائج الكمية، فإن صندوق الابتكار مثّل خطوة تأسيسية يمكن البناء عليها في أي مبادرة مستقبلية لتعزيز الاستثمار المحلي بقيادة البلديات.

البلديات ورؤية التحديث الاقتصادي: شراكة لا تزال غائبة

أُطلقت رؤية التحديث الاقتصادي عام 2022 في المملكة الأردنية الهاشمية، بتوجيه ملكي سامٍ من جلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين المعظم، بوصفها خارطة طريق وطنية لتحقيق نمو شامل، وتوليد فرص العمل، وتحسين نوعية الحياة في مختلف المحافظات.

وقد أكدت الرؤية منذ إطلاقها على أهمية إشراك جميع مؤسسات الدولة، بما في ذلك البلديات، نظراً لدورها الحيوي في تقديم الخدمات الأساسية، وإدارة البنية التحتية، وتعزيز التنمية المحلية المباشرة.

ورغم إنشاء وحدة للتحديث الاقتصادي في رئاسة الوزراء، وتقدم ملحوظ في إطلاق المبادرات ضمن محركات النمو والتمكين، إلا أن إشراك البلديات في مراحل التنفيذ العملي ما يزال محدودًا. تُدار معظم البرامج من المستوى المركزي، دون إشراك منظم للبلديات في التخطيط أو التنفيذ، الأمر الذي يُبرز الحاجة إلى تعزيز التنسيق المؤسسي والاستفادة من القدرات المحلية الكامنة لتوسيع أثر الرؤية.

إن تعزيز دور البلديات في تنفيذ الرؤية لم يعد خيارًا إداريًا، بل ضرورة استراتيجية لإنجاح مشروع التحديث الوطني. ويتطلب ذلك مراجعة أدوار ومسؤوليات البلديات، وتفويضها بصلاحيات واضحة، وتوفير الأدوات التشريعية والمالية التي تمكّنها من المساهمة بفعالية في تحقيق مستهدفات الرؤية على المستوى المحلي.

في هذا السياق، يشكّل مشروع الخدمات البلدية والتكيّف الاجتماعي (MSSRP) تجربة رائدة يمكن البناء عليها. فرغم كونه مشروعًا مؤقتًا، إلا أنه مكّن البلديات من تنفيذ مشاريع تنموية ذات أثر ملموس، وأنتج أدوات عملية ونماذج عمل قابلة للتبني ضمن إطار مؤسسي دائم. كما أظهر استعداد البلديات لقيادة العمل التنموي متى ما توفرت لها البيئة التشريعية، والتمويل المنتظم، والدعم الفني المتخصص.

الحفاظ على الزخم: مبادرة وطنية بقيادة البلديات

أثبت مشروع الخدمات البلدية والتكيّف الاجتماعي (MSSRP) أن البلديات ليست مجرد جهات منفذة، بل شركاء وطنيين في التنمية، قادرون على قيادة تدخلات نوعية وتحقيق أثر ملموس على مستوى الخدمات، والتشغيل، والصمود الاجتماعي والاستقرار الوطني. فخلال سنوات تنفيذ المشروع، دعمت تدخلات MSSRP أكثر من 80 مشروعًا في 27 بلدية، وأسهمت بما يعادل 12% من إنفاقها الرأسمالي، فضلًا عن توفير أدوات مؤسسية مبتكرة ومقاربات جديدة في الشفافية والمساءلة والشراكة مع القطاع الخاص.

ورغم انتهاء المشروع، إلا أن الدروس واضحة، والزخم حقيقي، والأدوات متوفرة. ما نحتاجه اليوم ليس مشروعًا جديدًا، بل إرادة جديدة تترجم هذا التراكم إلى برنامج وطني طويل الأمد، بقيادة أردنية، و بشراكة مع الجهات المعنية وشركاء التنمية، وفي مقدمتها البنك الدولي.

لقد باتت الحاجة ملحّة لإطلاق مبادرة مؤسسية شاملة تدعم قطاع البلديات ضمن رؤية التحديث الاقتصادي. مبادرة تُمكن البلديات من العمل ضمن صلاحيات واضحة، وموارد منتظمة، وأطر حوكمة متينة، وتُفعّل نماذج العمل التي أثبتت نجاحها — لا سيما صندوق الابتكار البلدي — ضمن بيئة تنظيمية مرنة، ودعم فني متخصص.

إن رؤية التحديث الاقتصادي، كما أرادها جلالة الملك، ستكون أكثر فاعلية وتأثيرًا عندما تتجذّر في مؤسسات محلية قوية ومُمكَّنة. وما تحتاجه البلديات ليس مشاريع إضافية، بل تحوّلًا جذريًا في السياسات يكرّس دورها القيادي، ويُفعّل مساءلته، ويصون مكتسباتها من تقلبات التمويل والظروف.

هذه دعوة صادقة لصنّاع القرار:

لنُحوّل المعرفة إلى سياسة، والدروس إلى تشريعات، والزخم إلى تحول مؤسسي حقيقي. وبذلك، نُعيد الاعتبار لقطاع يشكّل حجر الأساس في استقرار الدولة وتنفيذ رؤيتها، ونمنح شركائنا — كالبنك الدولي وغيره — سببًا إضافيًا للفخر بهذه التجربة الأردنية الناضجة والمُلهِمة.

مواضيع قد تهمك