أ. مريم غسان المصري : قراءة في الخلجات النفسية لرواية "العابرة بقايا امرأة" للروائية "بلقيس الفارسية"
أ. مريم غسان المصري.
ينبع تأثير أي خطاب سردي روائي من قدرته على اقتناص عين المتلقي، ليبحر في أعماق مضمونه، ويحتك بعتباته الماثلة في عنوان العمل وغلافه. وهنا يبرز دور القارئ في تفكيك شفرات النص وربطها بواقعه الذي يعيشه. ومن وجهة نظري، فإن الروائي الماهر المحترف هو الذي يستطيع أن يضعنا أمام عمل يخال إلينا كسيناريو فيلم، بحيث يشعر القارئ أن كل مقطوعة سردية هي مشهد مصوَّر أمام عينيه، وهذا ما نجده جليًّا وواضحًا في رواية الروائية "بلقيس الفارسية"؛ إذ استطاعت بأسلوبها الآسر أن تلتقط أنفاسنا منذ الصفحات الأولى، وتغوص بنا إلى أعماق ذاتها النفسية والروحية. فقد نقلتنا، عبر معاناتها وتجربتها التي مرت بها، إلى عوالم مفعمة بالصدق، وصوّرت ذلك بدقة في سرد متقن، حتى بدا للقارئ أنه يعايش اللحظة ويتلمس تفاصيلها.
اللافت في العنوان وغلاف رواية "العابرة بقايا امرأة" أن شخصية "العابرة" تمثل الروائية نفسها، تلك التي تسير في دروب ومتاهات الحياة بحثًا عن وجهتها في المدينة والحياة الجديدة. كان الطريق طويلًا وشاقًا؛ إذ كانت الروائية شابة طموحة تحلم بإكمال دراستها، وهو ما تحقق فعلًا بعد نجاحها في الثانوية العامة.
واجهت محاولات عديدة لإقناع أهلها بالسماح لها بمواصلة تخصصها خارج قريتها، حتى انتقلت إلى المدينة، حيث انفتحت على مجتمع أكثر تمدنًا، والتقت بشخصيات من بلاد عربية متعددة، فتعلّمت من عاداتهم وتقاليدهم.
لم يكن طريقها سهلًا؛ بل تخلله الحزن والألم والدموع، ويمكن وصف حالتها بأنها ضبابية في علاقاتها، خاصة مع الطرف الآخر، الرجل الذي تعيش معه ثم ينتهي الأمر دومًا إلى ألم يخيم على نهايات تلك العلاقات، لينتهي بها المطاف لتنفصل عمن أحبته، أو حتى يرحل عن عالمها كصديق أخيها، مما يزيد من ضبابية حالتها وتكثيف الألم في سردها، ويعكس عمق المعاناة النفسية التي تختبرها بين التعلق والفقدان.
بالإضافة إلى أن عنوان "العابرة بقايا امرأة" يحمل في طياته دلالة عميقة على الصراع النفسي والوجودي الذي تمر به البطلة، حيث تجسد "العابرة" تلك الرحلة المؤقتة والمليئة بالتقلبات في متاهات الحياة التي تحاول أن تعبر بها من مرحلة إلى أخرى، باحثةً عن استقرار أو وجهة تليق بأحلامها وطموحاتها. في المقابل، تعبّر عبارة "بقايا امرأة" عن أثر هذه الرحلة، حيث تبقى آثار التجارب والآلام باقية في القلب والروح، متجلية في هشاشة تتنازعها قوى الألم والأمل معًا.
بهذا، يصبح العنوان صورة رمزية لشخصية نسائية تواجه متغيرات الحياة بقوة وصمود، رغم أن التحديات قد تركت فيها ندوبًا وأثرت على تماسكها. إنها امرأة لم تعد كما كانت، لكنها ما زالت تعبر، تحمل بقايا ذاتها، وتنتظر اللحظة التي تكتمل فيها رحلة العبور لتتحول إلى كيان أكثر تكاملًا وقوة.
أما عن الغلاف، فيبرز الثنائيات الضدية كالحياة والموت، والألم والأمل. تظهر المرأة على الغلاف حاملةً سلة الورود البيضاء (الياسمين) والحمراء (شقائق النعمان)، دلالة على أنها شابة في مقتبل عمرها، مقبلة على الحياة بشغف وحب، وحافية القدمين، في إشارة إلى المعاناة والمأساة التي تواجهها، أو أنها تجد نفسها في المدينة كما في الآية القرآنية: "اخلع نعليك، إنك بالواد المقدس طوى".
وترتدي فستانًا تفوح منه رائحة الحياة والفرح، المندمج مع الوجع والألم، وما يعزز ذلك ما ورد على الغلاف الخلفي: "لماذا بدوت للأبد إن كنت لحظة عابرة!!! وحده الفراغ المحفور بداخلنا ونظرة الحزن بعيون من حولنا.. تكسر تقبلنا وتجعلنا تائهين في عالم هلامي بوهيمي المعالم.. يجبرنا على البحث عن أقرب أرضية صلبة، أو جدار ثابت نتشبث به قليلًا".
ولون الغلاف الخلفي الأحمر يرمز إلى الصراعات والأحداث المتوترة في الرواية، ومن ذلك ما جاء في حنايا الرواية: "جلست بلقيس ترتشف حلاوة تاريخ بمرارة، وعيناها تتلألأ مضيئة منحنيات مليئة بالأحداث"، وفي: "إرادة الكاتبة لفكرة ولذاتها وشخصيتها فيما يخص مجموعة الفقد التي تعرضت لها في حياتها، والصعوبات التي لاقتها، وإصرارها وعزيمتها على التعايش الإيجابي والتطور المستمر، سطر أحرفًا على قمة من قمم الإيجابية" وهو ما وصفه سيف الشمري في تقديمه للرواية.
وهذه التموجات الدلالية النفسية نلحظها جليًا في متن السرد الروائي، نحو قول الروائية: "هاتفتني باكية وبصوت مخنوق همست: "أبوكي مات" صرخت أضلعي أبي مات منذ وضعتني أمي أنثى، منذ أن دمر الأمان وأسكن الخوف قلبي دون ذنب منذ نعومة أظافري..."، وفي: "بعد رحيله انطفـ بداخلي شيء للآن لا أستطيع الكتابة أو البوح به، هناك شعور لا يمكن وصفه مزيج من الحزن والوجع والضعف والقسوة والحقد واللامبالاة وأشياء كثيرة كانت خلاصة ما سكبته الظروف بداخلي"، كذلك: "اختفى صوت طفلتي، وهي تئن بضعف ووجع يهز الجبال..."، وفي: "وبينما والدتي ووالدته في الحديقة دخلت إلى الغرفة الواسعة التي وضع فيها فراش وليد على الأرض في الزاوية، ليتسنى للجميع زيارته والاطمئنان عليه، حادثته، هامسته، وكأنه موجود، بكيت وانهرت، ودعوت، ورجوت، وخبأت كل هذا وخرجت وكأن الأمر عادي"، وفي قول الروائية: "جميعنا ذقنا الحزن فهو لم يترك روحًا إلا وطرق بابها، لكن أن تعيش حزنك وأن تكون ملزمًا بإخفائه وكأنك أمام عار كبير، هنا الرعب، فإذا أخفيت دموعي كيف لي أن أستحضر ابتسامتي المدفونة؟ هل يعود الأموات؟ كيف لجسمي أن يستر عورة حزني، لقد كانت روحي تنوح وتصرخ لقد مات حبيبي يا ناس. تمزق ثويها وتمرغ رأسها بالتراب، وتئن قائلة بضعف: لقد رحل وتركني يتيمة مبكرًا، كم هو طويل هذا العمر المتبق دونك يا حبيبي"، وفي قولها: "وبقيت أنا وحيدة، نعم أصبح لدي صديقتين أوصاهما بي لكن فراغ كبير بداخلي لا أعلم هل سيمتلئ يومًا ما أم لا؟ هذا بحكم الغير".
إن هذه المقاطع السردية وغيرها من المقاطع السردية داخل الرواية تحمل شحنات وجدانية عالية، تفيض بمشاعر الفقد والانكسار، حيث يتجلى الحزن كحالة وجودية ملازمة للشخصية، لا بوصفه حدثًا عابرًا؛ بل كجرح غائر ينهش الداخل ويعيد تشكيل الوعي. تتوالى الصور السردية في النص لتكشف عن تموجات دلالية نفسية متشابكة، تزاوج بين الألم الشخصي والجماعي، فصرخة البطلة عند تلقي خبر وفاة أبيها تمثل ذروة الانفجار العاطفي، بينما يجيء البوح المتأخر بوصفه محاولة لاستيعاب الصدمة التي تراكمت منذ الطفولة. وفي مشهد الاحتضار والزيارة، ينكسر السرد أمام تفاصيل جسدية صغيرة تفضح هشاشة الروح، ليعقبها اعتراف وجودي بأن الحزن حين يُخفى يتحول إلى عبء خانق يفوق احتماله. أما العزلة الداخلية التي تصفها الكاتبة في خاتمة هذه المقاطع، فهي تجسد الفراغ الذي يتركه الغياب في القلب، فراغ لا يُعرف إن كان سيُملأ يومًا، ما يجعل النص مفتوحًا على أفق من الأسى الممتد، حيث يصبح الحزن هو الإطار الحاكم لتجربة الساردة وذاكرتها وهو ما يتوافق مع العتبات النصية للعمل الروائي وبالتالي اتفاقها مع مضمونه السردي ورؤية الروائية.
إن رواية "العابرة" تعبر عمن عبرت الطريق، وخاضت التجارب، ولم تستقر على حال، بقايا امرأة هشة دخلت مكتملة، وخرجت ناقصة القلب والروح، فقدت ما فقدت وعانت ما عانت، رتبتها في سردٍ متماسك يحمل عبء تلك التجربة النفسية العميقة.