د. سلطان المعاني : لسان الأمّة
تتجاوز اللغةُ في جوهرها حدودَ الأداء الوظيفي والتواصل اليومي، لتغدو مستودع الذاكرة الجمعية ومختبر الوجدان، وهي في أبسط معانيها بيت الوجود الإنساني الذي تتشكّل فيه الذات وتُبنى عليه الهويات وتُؤسس القيم وتتجسد الرؤى، إذ ليس ثمة جماعة بشرية دون لغة تحمل تاريخها في أوعيتها، وتنسج بين أفرادها وشائج القربى والانتماء. وفي سياقنا العربي، حيث يتداخل سؤال اللغة بسؤال المصير، تصبح سلطة اللغة الأم مسألة سيادة وجودية تمسّ جوهر الكينونة الفردية والجمعية في آن.
لا يمكن للإنسان أن يتنفّس معنى الحياة خارج لغته الأم دون أن يشعر بأن ثمة اقتلاعًا صامتًا يجري في أعماقه، لأن اللغة بنية روحية وثقافية تُحمِّل الأشياء والأفعال والمشاعر معانيها، وتعيد ترتيب العالم من منظور خاص بالجماعة الناطقة بها. فاللغة الأم تحفظ تاريخ التجارب، وتخزن القصص والأساطير والأمثال والحِكم، وتربط الماضي بالحاضر وتؤسّس للمستقبل. كل محاولة لفرض لغة أجنبية أو جعلها سيدة المشهد الثقافي والاجتماعي، ولو جاءت تحت ذرائع التقدم أو الانفتاح أو العقلانية، إنما تؤدي إلى تصدّع البنية الداخلية للهوية الجمعية وتضعف قنوات التواصل الخلاق بين الأجيال.
وليس الأمر هنا صراعًا بين لغة وأخرى في صيغته البدائية، وإنما هو صراع على حق الجماعة في أن ترى ذاتها بعينها لا بعين الآخر، وأن تفكر وفق مفاهيمها لا وفق مصطلحات مستعارة، وأن تصوغ أحلامها وهواجسها وأحزانها بلغتها الخاصة لا عبر وسطاء مفروضين من الخارج. إن السلطة التي تمارسها اللغة الأم سلطة بناء وجمع وتوحيد، فهي التي تخلق المجال الرمزي المشترك الذي يتيح للناس أن يتعارفوا ويتخاطبوا ويتفهموا دون حاجة إلى ترجمة أو تبرير. أما اللغة المفروضة من الخارج، فهي مهما بلغت من «عالمية»، تظل غريبة في سياقها، وتزرع بين الناس مسافة خفية تُضعف الثقة بالذات وتعيد إنتاج التبعية حتى في الوعي.
حين تُزاح اللغة الأم عن عرشها، يتهدد الجماعة شرخٌ داخليٌ لا تراه العين إلا بعد زمن، إذ تنقسم الروح على نفسها بين لغة البيت ولغة المدرسة، بين أصوات القلب ومصطلحات السوق، بين الماضي المتخيل وحاضر مستعار. ولا يتوقف الأمر عند حدود المعجم أو النحو أو حتى الأدب، ولكنه يمتد ليشمل البنية العميقة للفكر وطرائق الفهم والتمثيل الذهني للعالم. فاللغة الأجنبية، مهما بلغت من قوة وانتشار، تحمل في صيغها وبلاغتها قيمًا ورؤى وأحكامًا ليست بالضرورة صالحة لمجتمع آخر، وقد تغدو معول هدم تدريجي لذاكرة الجماعة وإرادتها.
ومن هنا، فإن الدفاع عن سيادة اللغة الأم لا يصح أن يُفهم باعتباره نوعًا من الانغلاق أو الانعزال، ولا هو تعبير عن شوفينية عمياء؛ فهو استبقاء للقدرة الجمعية على إنتاج المعنى وتمريره للأجيال، وهو دفاع عن الحق في أن يكون الإنسان سيدًا على عالمه الرمزي، لا تابعًا في موكب الآخرين. فالحداثة ليست في تبني لغة الغالب، ولكن في استحضارها كضيف في فضاء الذات، مع الحفاظ على مركزية اللغة الأم كوعاء للفكر والإبداع والتواصل، وإلا صار التقدم نفسه نفيًا للذات وتدميرًا لتجربة الوجود في الزمان والمكان.
إن سلطة اللغة في هذا السياق سلطة توليد وتكثيف، تُصهر الذوات في بوتقة مشتركة دون أن تمحو فرادتها، وتتيح للثقافة أن تنمو وتشتبك مع العالم وهي واقفة على أرضها. وكل خطاب عن «ضرورة» إحلال لغة الآخر أو تقليص حضور اللغة الأم، تحت دعاوى الاقتصاد أو التكنولوجيا أو حتى «العلمية»، ما هو إلا استبطان لمشروع إخضاع ناعم، يمهد لإزاحة الجماعة عن مركزها الرمزي، ويحوّلها تدريجيًا إلى مجرد نسخة باهتة من نموذج كوني معولم.
من هنا تتبدّى سلطة اللغة الأم كسلطة مقاومة في زمن السيولة وفقدان الحدود: مقاومة النسيان والاندثار، مقاومة الذوبان في الآخر، ومقاومة القطيعة بين الأجيال. اللغة الأم شرط إمكان الحضور والتجدد، ولا معنى لأي سيادة سياسية أو ثقافية أو اقتصادية إن لم تكن اللغة الأم في قلب المشروع النهضوي؛ فهي وسيلة التعبير، وهي الحاضنة الكبرى للهوية، والمعبر الأصيل لنداء الذاكرة الجماعية، والضمان الأخير لبقاء الذات قادرة على قول «أنا» في وجه عولمةٍ لا ترحم الاختلاف.