الأخبار

القس سامر عازر يكتب : أعداء الحضارة وأعداء الإنسانية

القس سامر عازر يكتب : أعداء الحضارة وأعداء الإنسانية
أخبارنا :  

القس سامر عازر

منذ فجر التاريخ، كانت الحضارة مرآة الإنسان، وكانت الفنون، بكل أشكالها، التعبير الأسمى عن روحه الباحثة عن المعنى. فالموسيقى التي تنبع من الأعماق، واللوحة التي تسرق لحظة من الزمن، والمبنى العتيق الذي يحتفظ بذاكرة أجيال، ليست كماليات، بل هي صُلب الإنسان في عمقه، وتعبيره عن وجوده وكرامته.

ومن هنا، فإن كل من يزدري الجمال، أو يسخر من الفن، أو يحتقر التراث، أو يهدم الآثار، أو يصادر الموسيقى، لا يهاجم مجرّد مظهر من مظاهر الحياة، بل يعتدي على جوهر الإنسانية ذاتها، ويقف في صف أعداء الحضارة وأعداء الإنسان.

قال القديس يوحنا الدمشقي: "كل ما هو جميل يأتي من الله، لأن الجمال يعكس صورة الله في خليقته."
وهذا القول يذكّرنا بأن الجمال ليس مجرد ذوق، بل هو بعدٌ لاهوتي يعكس الحضور الإلهي في العالم المخلوق.

وليس صدفة أن أكثر الأنظمة توحشًا في التاريخ، بدأت بإسكات الشعراء، وسجن الرسامين، وهدم المسارح، وإغلاق دور العرض، وتكميم الأفواه التي تغنّت بالجمال والحرية. لأنهم يعرفون أن الجمال يُحرّر، وأن الفن يفتح النوافذ حين يُغلقون الأبواب. وكما قال الفيلسوف أفلاطون: "حين يفقد الإنسان حسّه بالجمال، يفقد قدرته على أن يحبّ."

التراث، بمبانيه وآثاره وطقوسه، ليس حجارة صامتة، بل هو روح حيّة تسكن الذاكرة وتربط الأجيال ببعضها البعض. تدميره أو طمسه هو قتلٌ بطيء لذاكرة الشعوب، ومحاولة لقطع النهر عن منبعه. وقد أشار الفيلسوف الفرنسي بول ريكور إلى ذلك حين قال: "النسيان المقصود للتراث هو شكل من أشكال العنف الرمزي، لأنه يُفقد الإنسان القدرة على فهم ذاته."

أما الموسيقى، فهي لغة لا تعرف حدودًا ولا طوائف. أليست الموسيقى هي الصلاة الصامتة للقلوب، والرفيق الحميم في لحظات الحزن والفرح؟ من يمنع الموسيقى، أو يشيطنها، هو من يريد لأرواحنا أن تجِّف، ولإنسانيتنا أن تصمِت. ويكفي أن نذكر قول القديس أغسطينوس: "من رتَّلَ صلّى مرّتين." فكيف تُدان الموسيقى وهي تسبيح من لا يجد الكلمات؟

والجمال؟ كيف يمكن أن نقف ضدّ الجمال، وهو إشراق الله في تفاصيل الخليقة، وهو في الألوان، وفي المعمار، وفي صوت الناي العابر، وفي رائحة كتاب قديم؟ قال دوستويفسكي: "الجمال سينقذ العالم." فهل يُعقل أن نطرد من عالمنا ما قد يُنقذه؟

أعداء الحضارة هم الذين يسكنهم خوف مَرَضي من كل ما هو حيّ، لأنهم لا يستطيعون السيطرة على الإبداع، فيخشونه. أما أعداء الإنسانية فهم من لا يرون الإنسان إلا رقماً، أو أداة، أو تهديدًا. وهم غالبًا الأشخاص أنفسهم. من يحارب الجمال، لا بد أن يكون في داخله قبح مستتر.

الحضارة ليست مجردَ اختراعٍ مادي، بل هي ثمرة الروح حين تتصالح مع ذاتها. وكل محاولة لطمس هذه الروح، أو تهميش الفن، أو اختزال التراث، أو قمع الموسيقى، ليست إلا هجومًا على إنسانيتنا في أرقى تجلياتها.

لن يكون العالم بخير إن أصبح صامتًا، رماديًا، بلا أغنية، ولا ذاكرة، ولا حلم. ومن أجل ذلك، فإن الدفاع عن الفن والجمال والتراث والموسيقى، لم يَعُدْ ترفًا، بل صار واجبًا إنسانيًا وأخلاقيًا وروحيا، في وجه أولئك الذين يريدون لهذا الكوكب أن يُطفئ آخر شمعة فيه.

مواضيع قد تهمك