د. نعيم الملكاوي : حين تلتهم الأزمات الاقتصادية روح المجتمع
- Friday-2025-07-11 | 08:48 am
أخبارنا :
في الأردن ، لا تعني الأزمة الاقتصادية مجرّد هوامش مقلقة في نشرات
الأخبار أو رسومات بيانية صمّاء . هي في حقيقتها سلسلة أصفادٍ تكبّل
المواطن من الراتب حتى القيم الأخلاقية والاجتماعية ، ومن جيب رب الأسرة
إلى منسوب الثقة والانتماء الذي يتآكل بين الناس ومؤسساتهم .
فحين
تقول الأرقام إن المديونية العامة تجاوزت 44.8 مليار دينار ( قرابة 117 %
من الناتج المحلي)، فهذا ليس رقماً معزولاً عن البيوت . إنه يعني بالضرورة
أن الأسرة الأردنية تدفع ثمن سوء التخطيط وضعف الحماية من تغوّل الأسعار —
من فاتورة الكهرباء حتى ربطة الخبز — بينما يظل الراتب ثابتاً لا يواكب زحف
الأسعار الذي لا يرحم ولا ينظر اليه التضخم بروح الشفقة مع غياب المشاريع
الإنتاجية المولدة لفرص عمل افضل .
راتب يتآكل… وأسعار لا تخجل
منذ
سنوات ، والمواطن يعيش مشهداً يتكرّر بلا نهاية : راتب محدود ، قروض
تتضخّم، سلع أساسية تصعد على ظهر التضخم ، بينما يتوارى الأمل خلف شاشات
التصريحات الحكومية المكررة .
التضخم الرسمي بلغ حدود 4 % العام
الماضي 2024 بحسب بيانات دائرة الإحصاءات العامة ، لكنه أعلى من ذلك بكثير
في تفاصيل الحياة اليومية . من يتسوّق في السوق أو يدفع فاتورة الكهرباء أو
يقف عند مضخة الوقود ، يدرك أن الأرقام الرسمية مجرّد غلاف هشّ لحقيقةٍ
مُرّة لا تعكس حقيقة المعاناة .
* في اخر تقرير لدائرة الإحصاءات العامة نقرأ :
"
أصدرت دائرة الإحصاءات العامة تقريرها الشهري حول الرقم القياسي العام
لأسعار المستهلك (التضخم) والذي رصد ارتفاعاً بنسبة 1.97 % للأشهر الخمسة
الأولى من عام 2025 مقارنةً مع نفس الفترة من عام 2024 . أما على المستوى
الشهري فقد ارتفع الرقم القياسي بنسبة 1.98 % لشهر أيار من عام 2025 مقارنة
مع الشهر المقابل من العام الماضي " انتهى الاقتباس .
شركات تتغوّل… وحكومات تتفرّج
في
ظلّ هذا كلّه ، تقف شركات كبيرة — المحروقات ، الكهرباء ، الاتصالات ،
المياه والبنوك — متربّعةً على فاتورة كل بيت ، ترفع أسعارها ونسب فوائدها
وقتما تشاء ، ولا تردعها حكومةٌ تلو أخرى عن التمدّد على جيب المواطن .
أما
التخطيط ؟ فيبدو أحياناً وكأنه أقرب إلى « مختبر » مُكلف ادواته جيب وقوت
المواطن : قرارات تُفرَض ثم تُلغى حين تتبدّل الحكومات . ترفع حكومة ضريبة
استيراد السيارات لتثقل ظهر السوق ، ثم تأتي اختها لتتراجع وكأن حياة الناس
حقل تجارب .
أين الثقة من الرؤية الاقتصادية الشاملة ؟
البنوك… شريكٌ خفيّ في استنزاف الجيوب
لكن
الأخطر أن المواطن امسى في قبضة بنوك ترى في القروض سوقاً مضموناً ، لا
شريكاً في التنمية . فكلما رفع الفيدرالي الأمريكي نسبة الفائدة ، يسارع
البنك المركزي الأردني إلى تقليدها بحجّة حماية الدينار، فتتضاعف أقساط
القروض القائمة على المواطنين الذين لم يُوقّعوا أصلاً على قروض «عائمة»
لتُلحق بها فوائد جديدة !
ثم إذا هبطت أسعار الفائدة عالميا ، تتلكأ
بعض البنوك في خفض نسبها على القروض المستحقّة ، وتُبقي المواطن عالقاً في
فخّ الديون طويلة الأمد ، بينما تتزايد أرباحها عاماً بعد عام . وتشير بعض
التقديرات إلى أنّ أرباح بعض البنوك تجاوزت مليار دينار في سنواتٍ قليلة ،
في بلد يعيش اكثر نصف شبابه إمّا عاطلًا عن العمل أو مثقلاً بمديونيةٍ
شخصيةٍ خانقة .
من الأرقام إلى الأخلاق … كيف تنهار المجتمعات من الداخل ؟
هذه
الدوامة لا تحبس الأرقام فقط ، بل تخنق القيم كذلك . فالثقة ، تلك «العملة
الأخلاقية» التي تحفظ المجتمعات من التصدّع ، تنزف مع كل فاتورةٍ متضخّمة ،
وكل قسطٍ يلتهم الراتب . وما أن تضعف الثقة ، حتى يصبح التحايل على
القوانين مقبولاً ، ويتراجع الشعور العام بالمسؤولية الوطنية .
إنه
الانهيار الذي لا يُقاس بالدولار ولا بالدينار ، بل يُقاس في أخلاق الناس
وأعصابهم المثقلة ، وفي الشباب الذين فقدوا إيمانهم بأن النجاح يأتي من
الكدّ والجدّ ، لا من الحظّ أو العلاقات المبنية على المحسوبية .
إعادة بناء الثقة… هل من سبيل ؟
الأرقام
وحدها لن تنقذنا . الإصلاح المالي لا بدّ أن يرافقه إصلاحٌ أخلاقي وقانوني
يحمي المواطن من تغوّل الشركات والبنوك على جيوبه ، ويُعيد تخطيط القرارات
الاقتصادية بعيداً عن مراهقة العبث والتجريب .
الثقة لا تُبنى
بخطاباتٍ ووعودٍ موسمية واستعراضات كاميراتية ، بل بخططٍ واضحةٍ وثابتة لا
تترك الناس رهناً للتقلّبات ولا أسرى لحيتان السوق . إنّها معادلة بسيطة :
كل أزمة اقتصادية إن لم تُدار بضميرٍ وعدالة ، تتحوّل إلى أزمةٍ أخلاقية
تهزّ اركان مجتمعاً بأكمله .
الثقة هي العملة الوحيدة التي إذا تراجعت… أفلس الجميع ...
وحين تهتزّ القيم … لن ينفعنا صندوق النقد ولا أسعار الفائدة .