عبد الله بني عيسى : عن تناقضاتنا!
تسأل نفسك وأنت تسير في شوارع الأردن وسط فوضى المرور المكتظة: ما سر هذه الفجوة الكبيرة بين ما نردده من قيم ومبادئ في مجالسنا وكتاباتنا وصفحات تواصلنا، وبين ما نمارسه فعلياً في حياتنا اليومية؟ لماذا يبدو هذا التناقض صارخاً إلى هذا الحد؟.
نحن شعب مولَع بالتنظير حول الأخلاق والقيم والمبادئ، ونبالغ أحياناً في التعبير عن هوياتنا أو انتماءاتنا أو مواقفنا السياسية، لكننا نادراً ما نحاول تجسيد هذه القيم في سلوكنا. والأسوأ أننا في كثير من الأحيان نشوه تلك القيم التي نزعم تمثيلها، بسلوكيات تخالف جوهرها بصورة فجة.
تأمل، على سبيل المثال، ذلك الذي يكتب على مؤخرة مركبته: "ومن يتق الله يجعل له مخرجا”، بينما لا يتردد في دهس حقوق الآخرين عند إشارات المرور، متجاوزاً عشرات المركبات المصطفة قبل الإشارة ليقتحم الصفوف عنوة. مثل هذا السلوك لا يعكس تقوى حقيقية، بل يكشف خللاً في الفهم العميق لمعنى التقوى أو حتى لمفهوم "المخرج” الذي يعد به الله عباده الصادقين.
وانظر إلى من يضع رمزاً لقضية عادلة على سيارته كدلالة على دعم تلك القضية، بينما يمارس في الطريق أسوأ أشكال المخالفات والبلطجة المرورية، متجاهلًا أن من يؤمن بقضية عادلة يجب أن يتمثل قيم العدالة والاحترام في حياته كلها، فالقيم لا تُجزأ ولا تُستعار عند اللزوم.
وثالث، يعلّق على مركبته خارطة الأردن أو صورة شخصية وطنية كبيرة، لكنه يفتح نافذته ليُلقي بعلبة سجائره الفارغة على قارعة الطريق. لم يخطر بباله لحظة أن هذه المخالفة العابرة تُلحق إساءة بالرمزية الوطنية التي يرفعها، وأن الوطنية سلوك يومي وليست مجرد صورة تزين الزجاج الخلفي للسيارة.
ورابع، بلحية طويلة وثوب قصير، يوقف مركبته على دوّار مزدحم ليشتري كيلو موز من بائع متجول، متسبباً في تكدس السيارات خلفه وسط زوامير وضجيج مزعج، وكأن مصالح الآخرين لا تعنيه، في حين يصر على مظاهر تدل على التدين ظاهرياً بينما يغيب جوهر القيم الإسلامية التي تحض على احترام حقوق الآخرين ومراعاة النظام العام.
وخامس، يضع اسم عشيرته بخط عريض على مركبته اعتزازاً وفخراً، لكنه يتعمد إخفاء لوحة الأرقام أثناء مسير موكب، ليضمن الإفلات من العقوبة ويمارس ما يشاء من المخالفات، دون أن يفكر في حجم الإساءة التي يلحقها بسمعة عشيرته أو بقيمها. ما الرسالة التي يظن أنه يبعثها بهذا السلوك؟ وما الذي يريدنا أن نفهمه من هذه التصرفات التي تقترب من حدود الجريمة الأخلاقية والقانونية؟
هذه المظاهر في الشوارع ليست سوى انعكاس لطريقة تعاطينا مع قضايانا السياسية والاجتماعية والمعيشية. فكيف نطالب بالإصلاح والعدالة ونحن عاجزون عن احترام النظام البسيط في الطرقات؟ وكيف ندعو إلى الحرية والديمقراطية ونحن لا نحترم أبسط حقوق الآخرين اليومية؟
قبل أن نسأل: "لماذا نحن في القاع؟"، يجب أن نطرح على أنفسنا سؤالًا أشد إيلامًا: "هل نحن صادقون مع أنفسنا في تمثل القيم التي ندعيها؟". إن أول خطوة نحو الإصلاح تبدأ من احترام القيم في السلوك اليومي، في قيادة مركبة، في احترام القانون، وفي الاعتراف بحقوق الآخرين على الطريق وفي الحياة.
وطننا أكبر من شعارات نرفعها ولا نلتزم بها. احترامنا له يبدأ من احترام النظام العام، ومن تمثل قيم العدالة والمساواة والرحمة في تفاصيل حياتنا اليومية. فالقيم التي لا تجد طريقها إلى سلوكنا العملي، تبقى شعارات جوفاء، لا تبني مجتمعاً ولا تصنع وطناً يليق بأبنائه.