د. حمد الكساسبة : رغم التوتر... الشرق الأوسط لا يزال جاذبًا للاستثمار الذكي
هل لا يزال الشرق الأوسط جاذبًا للاستثمار في ظل تصاعد التوترات والصراعات الجيوسياسية؟ هذا هو السؤال الذي يفرض نفسه اليوم بقوة، مع تنامي المخاوف من اتساع رقعة المواجهة بين إسرائيل وإيران. ورغم أن رأس المال عادةً ما يتفادى المخاطر، إلا أن هناك مؤشرات متزايدة على أن نمط الاستثمار في المنطقة قد يشهد تحوّلًا نوعيًا، خاصة نحو القطاعات الرقمية والذكية. فالمنطقة، رغم التحديات، لا تزال تملك موارد بشرية ومواقع جغرافية وفرصًا تنظيمية تجعلها محط اهتمام المستثمرين الدوليين.
تُعدّ المشاريع الرقمية اليوم خيارًا استثماريًا مثاليًا، ليس فقط بسبب سرعة تنفيذها وتكلفتها المنخفضة، بل لأنها تستمر في العمل بكفاءة حتى في ظل التحديات الكبرى، مثل إغلاق الحدود أو تعطل سلاسل التوريد. وهذا ما يمنحها جاذبية خاصة في أوقات التوتر. ووفقًا لبيانات منصة "ماجنيت"، استحوذت شركات التكنولوجيا في عام 2024 على نحو 23% من الصفقات الاستثمارية الكبرى في الخليج، مع توقعات بتجاوز هذه النسبة 30% خلال عام 2025. ويُعزى هذا النمو إلى المرونة العالية التي تتمتع بها الشركات الرقمية، وقدرتها على التوسع السريع وتكييف منتجاتها مع المتغيرات دون الاعتماد على بنى تحتية ثقيلة. كما أن جزءًا متزايدًا من هذه المشاريع يركّز على الأمن السيبراني والخدمات الرقمية العابرة للحدود، ما يجعلها أكثر قدرة على الصمود في وجه الأزمات.
التحول الرقمي لا يمكن أن يتم دون أساس متين. فهو يتطلب بنية تحتية رقمية متقدمة، وشبكات إنترنت قوية، وخدمات سحابية فعّالة، بالإضافة إلى كفاءات بشرية تمتلك المهارات الرقمية الحديثة. وقد نجحت بعض دول المنطقة، مثل الإمارات والسعودية، في تحقيق قفزات كبيرة بفضل استراتيجيات واضحة واستثمارات ضخمة في هذا المجال. أما باقي الدول، فلا تزال تواجه فجوة رقمية واضحة، بسبب ضعف الاستعداد الفني وقلة الكفاءات، مما يقلل من جاذبيتها أمام الاستثمارات الرقمية الواعدة. وبحسب تقارير الأمم المتحدة، فإن سد هذه الفجوة يتطلب استثمارات تتجاوز 1.6 تريليون دولار بحلول عام 2030. ومع ذلك، تُظهر بيانات البنك الدولي أن غالبية الاستثمارات في الشرق الأوسط لا تزال تذهب إلى مشاريع تقليدية مثل البنية التحتية والطاقة، بينما تُهمَّش القطاعات الرقمية. هذا التباين يكشف عن حاجة ملحّة لإعادة هيكلة أولويات الاستثمار في المنطقة، من خلال توجيه الموارد نحو الاقتصاد الرقمي كخيار استراتيجي قادر على تحفيز النمو وخلق فرص عمل مستدامة.
في حال تصاعد الصراع وتزايد التهديدات التي تُحدق بالممرات التجارية العالمية، قد يجد العالم نفسه مضطرًا للبحث عن مسارات بديلة أكثر أمنًا ومرونة. وهنا، يُمكن للشرق الأوسط أن يعرض نفسه ليس فقط كجسر جغرافي، بل كمنصة ذكية للتجارة والاستثمار. موانئ مثل العقبة في الأردن وبور سعيد في مصر تمتلك المقومات للتحول إلى مراكز لوجستية رقمية، تعتمد على أنظمة جمركية مؤتمتة وخدمات لوجستية ذكية، ما يضمن حركة سلسة وآمنة للسلع حتى في أوقات الأزمات. إن من يسبق إلى هذا التحول، سيحظى بفرصة لقيادة مستقبل التجارة الرقمية في المنطقة.
في النهاية، ورغم أن الصراعات لا تزال عنصر قلق رئيسيًا، إلا أن من يقرأ المشهد بعين استراتيجية سيجد أن الاستثمار في المستقبل الرقمي للشرق الأوسط قد يكون رهانًا أكثر أمانًا على المدى الطويل، إذا ما اقترن بإصلاحات بنيوية وتشريعية تواكب هذا التحول. فالتنمية الاقتصادية المستدامة باتت اليوم ترتبط ارتباطًا وثيقًا بقدرة الدول على احتضان التكنولوجيا وتحويلها إلى أداة لتعزيز الاستقرار والمناعة في مواجهة الأزمات.