رمزي الغزوي : خرائط تتشكل
ليس الشرق الأوسط ما نراه في نشرات الأخبار، بل ما يتشكل بصمت في الحواشي وبين الأنقاض، وما يتسلل خلسة من بين أصابع السلاح والخطابات الجوفاء. ثمّة شرق آخر قد يُولد تنهض به فكرة أن تعب الشعوب من الدوران في فراغ التاريخ أصبح أثقل من أن يُحتمَل.
نحن لا نعيش زمن الحروب، بل زمن سقوط الروايات التي كانت تبرر الحروب وتفشل في كسبها. مقولة «الممانعة» لم تعد سوى غلاف خشن لواقع هش، ولافتة باهتة فوق خرائب الدول. المشروع الإيراني الذي طالما صدّر شعاراته عبر أذرع مدججة بالسلاح ومُعمدة بالخطب، تآكل بعد كل تلك الضربات. لا لأنه هُزم عسكرياً فقط، بل لأنه وفقد القدرة على الإقناع. لا أحد يؤمن بمشروع يسوّق للموت كفضيلة، ولا يجيد تقديم الحياة المقاومة بالحياة.
أحب وأحترم الشعب الإيراني، وأقدّر تراثه وثقافته وفنه، تلك البلاد الغنية بالحضارة والتاريخ. لكن هذا الشعب ليس قيادته. القيادة هناك، ومنذ أكثر من أربعة عقود، حبست إيران والمنطقة في آبار من الوهم. رفعت شعارات لم تُثمر إلا الخراب، وأدخلت فلسطين في بازار دون أن تحرر شبراً. بل لعلها، بتلك الشعارات ساهمت في تقوية إسرائيل لا كسر شوكتها، ومنحتها مبرراً كي تفرض هيمنتها.
ثمة من يرى في الأفق ملامح نظام إقليمي جديد، ليس مثالياً ولا خالياً من المصالح، لكنه على الأقل يملك منطقاً مختلفاً: منطق الاستثمار في الإنسان لا في الميليشيا، منطق التنمية لا التدمير، منطق بناء الدولة لا تفكيكها. العدو الإسرائيلي لا يجابه بالمليشيات. كما أن بعضا من دول هذا الشرق تقترح نموذجاً جديداً، يحاول أن يبني واقعية متزنة، تضع الاقتصاد والتعليم فوق صخب الشعارات.
من لا يرى هذا التحول، لا يعيش في العزلة فقط، بل يصر على حراسة خرائب خطاب مات قبل أن يُدفن عسكرياً. لسنا في معركة «تحرير» ضد «هيمنة»، بل في اختبار وجودي بين من يريد أن يبني، ومن اعتاد التعايش مع الحطام. فإسرائيل ثبت أنها لا تجابه إلا بالعلم الذي يمكننا من امتلاك القوة الموازية.
هذه لحظة فارقة: إما أن نكون جزءاً من شرقٍ ممكن، أو نكتفي بتأبين شرقٍ لم يترك لنا إلا الرماد. والسؤال المفتوح هنا: من يملك شجاعة كسر المرآة، لاجتراح طريق جديد خارج دوائر الوهم؟ ــ الدستور