د. ايوب ابو دية : المهندسون المتقاعدون: نخبة وطنية مظلومة بعد عطاء
في زاوية منسية من هذا الوطن، يعيش عشرات الآلاف من المهندسين المتقاعدين وعائلاتهم حالة من الغبن والإهمال المؤلم، بعد أن أفنوا عقوداً من أعمارهم في بناء الطرق والجسور والمطارات والقنوات، ورفع الأعمدة وصب العقدات في الابنية، ورسم خرائط تنظيم المدن، والمساهمة في نهضة عمرانية لا يُستهان بها. هذه الفئة، التي يفترض أن تُكافأ على التزامها النقابي الطويل وعطائها الوطني، أصبحت اليوم ضحية تخبط إداري، وتجاهل نقابي، بل وإهانة صريحة لكرامتهم وحقوقهم.
يعاني المهندسون المتقاعدون في العديد من البلدان، ومنها دول عربية ذات نقابات فاعلة تاريخياً، من انقطاع أو تقليص تعسفي في رواتبهم التقاعدية. وفي بعض الحالات، كالحالة الاردنية، يُخفض الراتب إلى النصف أو الربع، دون أي سابق إنذار أو بيان يوضح الأسباب، وكأن الأمر خاضع لـ"اليانصيب" الشهري: قد يصلك الراتب، وقد لا يصلك. ويمكن تخيل المشكلة للفئة الأدنى من رواتب المتقاعدين الذين لا يتجاوز راتبهم التقاعدي مائتي دينار. تخيلوا عندما يصلهم مبلغ خمسين دينار شهريا ماذا ستكون أحوالهم؟
والبعض يشترك في التأمين الصحي ويقتطع نحو نصف المبلغ لذلك. أليست هذه حالة غبن تستحق النظر من قبل الدولة؟.
حظ أم حق؟
أن يكون الراتب التقاعدي رهن "الحظ" لا القانون والعدالة هو مهزلة لا تليق بأي مؤسسة نقابية يُفترض بها الدفاع عن حقوق أعضائها، لا التنصل منها. أن يتحول الحق المكتسب إلى احتمال شهري هو شكل من أشكال الإذلال اليومي، الذي لا يمكن تبريره بعجز مالي أو أزمة مؤقتة. فالحقوق لا تُعلق، ولا تُلغى، ولا تُقلص، دون حوار ولا شفافية، ودون مبررات قانونية تُطرح على الطاولة أمام الجميع.
نقابة في حالة صمت
اللافت في هذه الأزمة ليس فقط استمرارها، بل صمت النقابة المريب تجاهها. فالنقابة التي من المفترض أن تكون بيت المهندس الامن، وخيمته الواقية في وجه العواصف، اختارت أن تغلق أبوابها أمام صرخات المهندسين المتقاعدين. لا بيانات، لا توضيحات، لا خطط إنقاذ، ولا حتى اعتراف بوجود المشكلة. هذا الصمت، بحد ذاته، إدانة أخلاقية ومهنية.
لقد التزم المهندسون لعقود بدفع اشتراكاتهم الشهرية للنقابة، رغم الظروف الاقتصادية الصعبة، إيماناً منهم بأهمية الانتماء المهني وضمان العيش الكريم في المستقبل. ومع ذلك، حين حان وقت ردّ الجميل، وجدوا أنفسهم أمام جدار من التجاهل والتخلي.
حان وقت التدخل الحكومي
عندما تعجز النقابة عن الوفاء بالتزاماتها، وحين لا تملك الشفافية لتفسير موقفها، لا بد من تدخل حكومي واضح وعادل ومنصف. فلا يجوز أن تُترك نخبة مهنية ساهمت في بناء الوطن لمصيرها المجهول، خاصة وأن بعضهم يعتمد كلياً على هذا الراتب التقاعدي كمصدر دخل وحيد. فالمسؤولية الأخلاقية والاجتماعية تحتم على الدولة، ممثلة بوزارات العمل أو العدل أو التنمية الاجتماعية او غيرها، أن تتحرك فوراً لضمان الحد الأدنى من الكرامة المعيشية لهؤلاء.
وهنا، يبرز سؤال قانوني مشروع: أين الرقابة على صناديق النقابة؟ وهل توجد خطة تقاعدية مستدامة أم أن الأمر يُدار بشكل ارتجالي؟ غياب الإجابات عن هذه الأسئلة يؤكد الحاجة إلى تحقيق ومحاسبة ومراجعة شاملة.
الكرامة ليست ترفاً
المهندس المتقاعد ليس رقماً في سجل، ولا حالة في قائمة الانتظار. إنه شخصٌ خدم هذا البلد من موقعه، وصبر، وقدم الكثير من الجهد والعرق وانتظر التقدير. لكن التقدير لم يأتِ، بل أُهين بالصمت والتخفيض والتجاهل. وهذا ما يجعل من هذه القضية أكثر من مجرد خلل مالي؛ إنها قضية كرامة وحقوق وعدالة مفقودة وقضية رأي عام واستقرار مجتمعي.
دعوة للصحافة والمجتمع المدني
من هنا، تأتي أهمية تسليط الضوء الإعلامي على هذه القضية. فالصحافة الحرة مسؤولة عن نقل صوت المظلومين. كما أن منظمات المجتمع المدني، وجمعيات الدفاع عن الحقوق الاجتماعية والمهنية، مدعوة للتضامن مع المهندسين المتقاعدين، لطرح هذه القضية على الرأي العام، وتحويلها من "شكوى فردية" إلى مطلب مجتمعي لا يمكن تجاهله. فلا تجوز هذه المعاملة ولا يجوز بقاء الرواتب متدنية إلى هذا الحد، فعلى الأقل ينبغي أن يرتفع الحد الأدنى من مئتي دينار شهريا إلى مئتين وتسعين أسوة بالرواتب الدنيا التي حددتها الحكومة.
خاتمة: الوفاء لمن بنى
لا يمكن أن يُبنى مستقبل دون احترام من بنى الماضي. فالمهندسون الذين خططوا وبنوا وجاهدوا في صمت، لا يستحقون أن يُعاقبوا على شيخوختهم، ولا أن يهانوا بعد عطاء عمر مديد. القضية ليست فقط رواتب؛ بل هي قضية احترام ووفاء وعدالة وانصاف وكرامة.
ولعل الوقت قد حان لأن نعيد تعريف مفهوم "النقابة"؛ فإما أن تكون بيتاً حقيقياً للعضو، أو لا معنى لها سوى كيان فارغ يُستخدم للمجاملات والمظاهر والعمل السياسي أحيانا. المهندسون المتقاعدون يستحقون أكثر من ذلك بكثير. فان لم تستجب النقابة فلتحل ليبقى منها منظومتها الفنية وكفى.