أ. د. هاني الضمور : السيادة تبدأ من العقل: وزارة التنمية المستدامة بوصفها قلب الدولة الحديثة
في اللحظات التي تتشكل فيها مصائر الأمم، لا يكون السؤال عن «من نحن؟» ترفًا ثقافيًا أو تأملًا عابرًا، بل يتحوّل إلى ضرورة سيادية تُحدد اتجاه البوصلة. وفي وطن مثل الأردن، المجبول بالوعي والتحدي، والمثقل بالإمكانات المعطلة، يصبح هذا السؤال مفتاحًا لبقاء الدولة في قلب التاريخ، لا في هامشه.
الأردن لا يعاني من غياب الرؤية، بل من فجوة بين الرؤية والقدرة على تجسيدها. فجلالة الملك عبدالله الثاني، منذ سنوات طويلة، حمل على عاتقه بناء تصور مستقبلي للدولة، متقدمًا على معظم مؤسساتها، مفكرًا بعشرين عامًا إلى الأمام، بينما بقيت بعض المؤسسات تتعامل مع المشكلات اليومية بعقلية الأمس. وفي الوقت الذي دعا فيه الملك إلى اقتصاد معرفي، ومجتمع إنتاجي، ومواطنة فعّالة، كان البعض يتعامل مع الإنسان باعتباره رقمًا في جهاز إداري، لا عقلًا في منظومة بناء.
الرؤية الملكية لم تكن يومًا مناسبة احتفالية، بل إعلان عن اتجاه وطني جديد. لكنها بقيت دون تنفيذ، لأن المؤسسة التي كان يجب أن تلتقطها وتحوّلها إلى سياسة لم تُولد بعد. هنا، في هذا الفراغ العميق، تنشأ الحاجة إلى وزارة ليست كغيرها، وزارة لا تتعامل مع ملفات تقليدية، بل تمسك بخيط الوجود نفسه. إنها وزارة التنمية المستدامة، الوزارة التي لا تُعنى بالبيئة وحدها، ولا تشبه وزارات التخطيط أو التعليم أو العمل، بل تتجاوزها جميعًا نحو صياغة علاقة جديدة بين الدولة والعقل، بين المواطن والسيادة، بين الإنسان وبناء المستقبل.
هذه الوزارة، حين تولد، لن تُضاف إلى رصيد الهيكل الإداري، بل ستعيد تعريف هذا الهيكل من أساسه. فهي ليست وزارة بالمعنى التنفيذي البيروقراطي، بل مؤسسة سيادية تحمل وظيفة معرفية عميقة، ترى في العقل الأردني مشروعًا وطنيًا متكاملاً، لا مجرد كفاءة مهنية عابرة. هي الوزارة التي تُنهي حالة الانفصال بين التعليم وسوق القرار، بين البحث العلمي واحتياجات الدولة، بين الكفاءات المنتشرة في العالم وبين وطن لا يعرف كيف يستعيدها أو يحتضنها.
الجامعات الأردنية، رغم ما فيها من طاقات، لم تعُد قادرة وحدها على حمل مشروع الدولة، لأن السياسات التي تديرها لم تعد تواكب ما يُنتج في الخارج من فرص، ولا تملك آلية لتوظيف العقل الوطني في صناعة القرار. وهجرة الكفاءات التي كانت تُوصف قديمًا بأنها ظرف اقتصادي، تحوّلت اليوم إلى نزيف وطني.
وزارة التنمية المستدامة، وفق هذا التصور، ستكون بوابة سيادية لإعادة هيكلة العلاقة مع العقل الأردني، داخل الوطن وخارجه. ستكون قادرة على صياغة استراتيجية وطنية عميقة، لا تنطلق من استيراد النماذج، بل من فهم الهوية الأردنية كهوية معرفية، إنتاجية، قادرة على صياغة مستقبلها بوعي. هذه الوزارة لا تحتاج فقط إلى الإرادة السياسية، بل إلى الاعتراف بأن غيابها كلّفنا ما لا يُقاس: فقدان المبدعين، انطفاء روح البحث، تحويل الجامعة إلى محطة عبور، وضياع سنوات طويلة من بناء الإنسان دون نتائج حقيقية.
إنّ الفجوة بين الرؤية الملكية المتقدمة، وبين أداء المؤسسات القائمة، لا يمكن ردمها إلا بجهاز يمتلك البصيرة والصلاحية. والمؤسسات الحالية، مهما كانت نواياها، لا تملك البنية الذهنية ولا القدرة التشغيلية على قيادة هذا النوع من التحول. لهذا، فإنّ إنشاء وزارة التنمية المستدامة ليس قرارًا إداريًا، بل خطوة سيادية لإنقاذ المستقبل، تقوده المعرفة.
منذ سنوات، ونحن نحتفل بنجاحات الأردنيين في المهجر. نُكرمهم، وندعوهم لمؤتمرات، وننشر صورهم في الإعلام. لكن السؤال المؤلم يبقى: لماذا غادروا؟ ولماذا لا يعودون؟ والجواب دائمًا يعود إلى غياب من يحتضنهم لا في الكلام، بل في السياسات. لا أحد يهاجر من وطنه إلا حين يشعر أنه فائض عن الحاجة فيه. ووزارة التنمية المستدامة ستكون الإعلان الأول بأن العقل، حجر الأساس في أمن الوطن ونهوضه.
إنّ السيادة لا تُقاس بالمباني، ولا بالموازنات، بل تُقاس بقدرتنا على إدارة عقولنا. ومن لا يُدير عقله لن يقدر على إدارة اقتصاده، ولا استقرار مجتمعه، ولا مستقبل أجياله. هذه الوزارة ستضع الإنسان في صلب التخطيط، لا في هوامشه، وستعيد البحث العلمي من المختبر إلى مكتب القرار، وستجعل من الجامعة نواة للسيادة لا مجرد منجم شهادات.
اليوم، الأردن ليس بحاجة إلى ورقة جديدة، بل إلى مؤسسة تترجم ما كُتب منذ سنوات في الأوراق النقاشية إلى مسار عملي، وطني، شجاع. وزارة التنمية المستدامة هي هذه المؤسسة. هي الرد العملي على سؤال: لماذا لم نبدأ؟ وهي بداية الجواب الصادق على سؤال: متى ننهض؟
إن لم نبدأ من العقل، فلن نبدأ أبدًا.
أستاذ التسويق الدولي – الجامعة الأردنية..