فنجان العيد..سُطور محفورة في كتاب الكرم الأردني

مع إشراق صباحات تتعطر فيه الأجواء بالتكبير، تتهيأ البيوت الأردنية لطقوس
لا تُشبه أي مناسبة أخرى، تبدأ من صلاة العيد وتنتهي بصوت الأطفال وهم
يلهون بفرح العيد في الحارات، ولكن وسط هذه الأجواء العامرة، يبرز مشهد
ثابت ومتكرر، لا يمكن أن يمر صباح العيد بدونه، هو إعداد القهوة العربية؛
فهي ليست مجرد مشروب ساخن، بل فعل رمزي مكثف، يحمل ذاكرة جماعية كاملة،
ويمثل جزءًا من بنية الضيافة وثقافة التواصل في المجتمع الأردني.
في
صباحات العيد، لا يُحضر فنجان القهوة على عجل، بل يُعد بحرص يشبه طقسًا
مقدسًا. تسبق نكهته خطوات الضيوف، وترافق رائحته دفء اللقاءات. هو أول ما
يُقدَّم، وأهم ما يُعدّ، وتكاد لا تخلو جلسة عائلية أو عشائرية منه،
فالقهوة، منذ قرون، شكّلت مفتاحًا غير مكتوب لباب الكرم الأردني، وإشارة
رمزية على حسن الاستقبال، واحترام المكانة الاجتماعية، واستمرارية
التقاليد.
في البادية الأردنية، حيث الجذور العشائرية أكثر رسوخًا،
تبقى القهوة جزءًا لا يتجزأ من الطقوس التي تُمارس بكل دقة، فالتحضير يبدأ
قبل بزوغ الشمس، حيث يُحمّص البن على النار، ويُدقّ باستخدام "المهباش" في
إيقاع شبه موسيقي يُعلن بدء الاستعداد لاستقبال العيد والضيوف، هذا المشهد
يتكرر جيلاً بعد جيل، ويؤدي وظيفة تتجاوز تقديم الضيافة إلى أداء واجب
اجتماعي يحمل في طياته معاني الشرف، والنخوة، والانتماء إلى العشيرة
والأرض.
وكما أوضح العين السابق طلال صيتان الماضي في حديثه لوكالة
الأنباء الأردنية (بترا)، تُعدّ القهوة العربية رمزًا أصيلًا من رموز
الموروث الاجتماعي الأردني، خصوصًا لدى أبناء العشائر والبادية، مشيرًا إلى
أنها تُعد أولى مظاهر التكريم للضيف، وأن استقبال الضيف لا يكتمل دون
تقديمها.
وأضاف، أن فنجان القهوة يحمل دلالات عميقة في المجتمع
الأردني؛ إذ يُلزم الضيف بشرب الفنجان الأول، المعروف بـ"فنجان الضيف"،
فيما يُعبّر الفنجان الثاني، "فنجان الكيف"، عن إعجابه بمذاق القهوة. أما
الفنجان الثالث، "فنجان السيف"، فيُعدّ إعلانًا رمزيًا عن استعداد الضيف
للدفاع عن أهل البيت عند الحاجة، في تجسيد واضح لقيم الشهامة والنخوة.
وأشار إلى أن القهوة في السابق كانت تُشترى من التجار القادمين من الشام
وفلسطين والعراق والحجاز، حيث كانت الحدود مفتوحة والتنقل متاحًا قبل
اتفاقية سايكس بيكو، لافتًا إلى أن الإبل كانت وسيلة النقل الرئيسية آنذاك،
خصوصًا لدى أبناء البادية.
وفي سياق الإجابة على عدد من التساؤلات
التي طُرحت عليه، أوضح العين صيتان، أن طقوس القهوة في أيام العيد لا تختلف
كثيرًا عن الأيام الأخرى، إلا أن إعدادها يبدأ باكرًا صبيحة العيد لتواكب
أجواء الفرح، وتُقدَّم كأول مظاهر الترحيب.
وأكد، أن المكونات الأساسية
للقهوة لا تزال كما هي: القهوة والهيل، رغم دخول بعض الإضافات الحديثة،
مثل الزعفران والزنجبيل والقهوة سريعة التحضير.
وبيّن، أن القهوة لا
تزال تحتفظ بمكانتها كرمز للتكريم في زيارات الأهل والأقارب، مشددًا على
أنه لا يُعذر المُضيف في عدم تقديمها، حتى وإن كان الضيف من أقرب الناس.
وحول دور المرأة في إعداد القهوة، قال إن هذا الدور كان في الماضي حكرًا
على الرجال، وكان يتم تحضيرها في قسم الرجال داخل "الربعة" في بيت الشعر،
إلا أن تطور المجتمعات ساهم في دخول المرأة هذا المجال، وأثبتت جدارتها في
إعداد القهوة على أصولها.
وفيما يتعلق بصب القهوة، أوضح أنه كان هناك
أشخاص مخصصون لهذه المهمة داخل البيت، بينما كان يقوم بها في أحيان كثيرة
أبناء البيت أو المضيف نفسه، في مشهد يُجسّد عراقة الكرم العربي الذي لا
يرتبط بالمكانة الاجتماعية.
وقال مدير مركز البادية الجنوبية للتدريب
والعمل التطوعي خالد الجازي خالد سالم هيشان الجازي، إن القهوة العربية
تُعدّ إحدى أهم الرموز الثقافية والاجتماعية التي لا تزال حاضرة بقوة في
المجتمع الأردني، وخصوصاً في البادية، حيث تحافظ على مكانتها كجزء أصيل من
التقاليد والعادات التي تعكس الكرم وحسن الضيافة.
وأوضح، أن أصل القهوة
العربية يعود إلى اليمن في القرن السادس عشر، حيث انتقلت إلى الأردن منذ
ما يقارب 1800 عام عبر الحجاز، مصاحبةً لقوافل الحج والتجارة التي كانت تمر
عبر الجزيرة العربية إلى بلاد الشام.
وأضاف، أن القهوة العربية لا
تُقدَّم فقط كمجرد واجب ضيافة، بل تشكّل ركناً أساسياً في المناسبات
الاجتماعية المختلفة، مثل العطوات، والصلح، والخطوبة، والأفراح، كما
تُقدَّم خلال عيد الأضحى المبارك إلى جانب التمر والحلوى، وذلك لكثرة
اللقاءات الأسرية والزيارات الاجتماعية في هذا العيد.
وبيّن، أن طريقة
تحضير القهوة تختلف بين البادية والمدن، مشيراً إلى أن أبناء البادية
يحرصون على تحضيرها على الحطب طوال اليوم، وهو ما يُكسبها نكهة ومذاقاً
خاصاً، بخلاف المدن والقرى حيث تُعدّ على الغاز وتُحفظ في سخانات.
وأردف قائلاً: "قهوة النار تُقدَّم مباشرة من الرماد إلى الضيف، ما يعكس كرم البادية الأصيل".
ولفت إلى أن هناك مثلاً شائعاً في البادية يقول: "القهوة للكيف" موضحاً أن القهوة تُقدَّم للاستمتاع والمزاج لا كواجب شكلي فقط.
وأكد، أن القهوة تُمثّل عنصراً أساسياً في الأعياد، وستظل متوارثة بين
الأجيال طالما ظل الترابط الاجتماعي والعائلي قائماً، مشدداً على أن القهوة
الحديثة لا تُلغي الأصل، بل تُعدّ امتداداً له وجزءاً من تطوره.
وشرح
الجازي، أن من شروط تقديم القهوة أن تُقدَّم ساخنة، وأن يُصب منها نصف
الفنجان أو أقل، احتراماً للتقاليدن وتبدأ عملية الصب من اليمين، إلا في
حالات الجاهات والعطوات، حيث تُقدَّم بدايةً لكبير الجاه، ويُوضع الفنجان
أمامه حتى تُقضى الحاجة.
وحذّر من تقديم القهوة وهي "باردة" أو
"صايدة"، مبيناً أن ذلك يُعدّ في عرف البادية علامة على وجود خلل في
التحضير، أو يُفهم منه إيحاء سلبي لا يليق بالمقام، سواء كان في إعدادها أو
في نية من يقدمها.
وختم الجازي حديثه بالتأكيد على أن "القهوة العربية
ليست مجرد مشروب، بل ثقافة متجذرة تعكس أصالة المجتمع الأردني، وستبقى
حاضرة بقوة في وجدان الأجيال القادمة، ما دام هناك من يتمسك بقيم الضيافة
والترابط الاجتماعي".
--(بترا)