الأخبار

بشار جرار : إشهار لا تشهير فيه

بشار جرار : إشهار لا تشهير فيه
أخبارنا :  

يظن بعض المنفصلين عن الواقع أن العالم ملتزم بقيمنا. لم يغب عن كثير من الواعين، أن العالم في حِلٍّ من قيمه، إن كان في ذلك مساس بقوّته وقوته، أمنا واقتصادا، ومن بعدُ أخلاقا وفكرا.
دون ذكر أسماء الدول أو القضايا المنظورة، شهدنا على مدى عقود ما نصفه «ازدواجية المعايير»، وبيننا للأسف من لا يرى الخشبة التي في عينه التي لا تقيم وزنا أصلا لمعاييرنا نحن، وليس فقط معايير الآخر.
يقوم إرهابي بفعلة نكراء. يلوذ البعض بالصمت والآخر يتصدى للتبرير! وبرغم وضوح العقائد الدينية والدنيوية بأنه لا يؤخذ أحد بجريرة ما ليس من فعله أو سيطرته، يتم إنزال العقوبة على نحو جماعي بأسرة المجرم أحيانا، حتى وقبل إدانته قضائيا، وأحيانا يعمّ «الظلم»، فيصير بنظر البعض «عدلا»، فتدفع الأسرة والعشيرة والحيّ وربما البلاد أو الحكومة أو المعارضة، أو الإثنية كلها -عرقيا ودينيا- ثمن تلك الفعلة النكراء.
من السهل توجيه اللوم. ومن المنطقي رفض هذا المنطق الأعوج، لكن صاحب السلطة أو القوة أو الثروة أو السطوة بكل أشكالها وخاصة الإعلامية، يستطيع تبرير تعميم العقوبة، بأن العتب مرفوع، وأن للمجرم أو الإرهابي شركاء مباشرين وغير مباشرين، منهم المتعاطفون والاعتذاريون، أولئك الذين يتهورون -فتأخذهم «العِزة بالإثم»- فيسارعون إلى تبرير أعمال العنف، تارة يسمونها جهادا وتارة مقاومة!!
اختلفت الثقافات والقوانين الناظمة لمكافحة الجريمة والتوعية والوقاية منها، في كيفية التعامل مع «خصوصية» المتهم والمدان. وكذلك تباينت في تعاملها مع خصوصية كل من يتصل به بروابط الدم أو الزمالة أو الجيرة أو الصداقة. حتى ذهب فريق -وكاتب هذه السطور منهم- مع الإشهار لا التشهير.. فالمنحرف والمجرم والإرهابي، وحتى المدمن والمريض الخطر نفسيا أو عقليا، والسفهاء بالمعنى الشرعي والقانوني، من الواجب تعريف الجمهور بهم حتى لا يتضرر الناس. والضرر لا يقتصر على المصالح، بل السمعة أيضا وقد تكون قاتلة، بمعنى أنها قد تصل إلى ما هو أبعد من التشويه، إلى الإيذاء الدامي أو القاتل.
أثناء كتابة هذه السطور الثلاثاء، أعلنت وزيرة الأمن الوطني «كرِستي نووم» أن أسرة منفذ اعتداء بولدر الإرهابي، قد تم احتجازها من قبل الجهة المخولة بمكافحة الهجرة غير الشرعية، وضبط الحدود والجمارك، المعروفة اختصارا ب «آيس». زوج وأب قضى بنفسه على أسرته، أم وخمسة أطفال، الكبرى تخرجت بمرتبة الشرف من المدرسة، ونالت قبولا جامعيا في كولورادو، التي كان بالإمكان في حال قبول طلب «اللجوء السياسي» لأبيها، أن تمثل الولاية في مجلس النواب أو الشيوخ يوما ما كمن سبقها من الأمريكيات والأمريكيين المهاجرين من الشرق الأوسط. كان بالإمكان أن يصبح هو أو أحد أبنائه يوما ما سفيرا لأمريكا في بلاده الأصلية مصر، أو دولة عربية شقيقة من ضمنها الكويت التي استضافته نحو عقدين.
هذا المهاجر غير الشرعي طلب اللجوء «السياسي» من بلاده الأصلية، التي قد تكون الملاذ الوحيد لفلذات أكباده وحرمه المصون، رفيقة عمره. المفارقة أن الثمن الأسري كارثي ومركّب، ربما بحجم عمله الإرهابي ضد متظاهرين أمريكيين يهود يطالبون بالإفراج عن الرهائن في غزة، بشكل أسبوعي دوري وبطرق سلمية لا علاقة لها بأي شعارات أخرى سياسية أو دينية. العبوات الحارقة كانت خياره الثاني بعد تعذر امتلاكه مسدسا أو رشاشا كونه ليس مواطنا. في حال التحقق من براءة أفراد الأسرة من أي شبهة تستر أو تعاطف مع فعلته النكراء، سيدفعون ثمنا باهظا -أقله التفكك الأسري وتشريد العائلة. التقديرات الأولية تفيد بالحكم في حال الإدانة بالسجن لما يزيد على الستة قرون -نعم أكثر من ستمئة سنة سجن- في حال إدانته بنحو ثلاثين تهمة. لن يقضي العقوبة في أمريكا بأمر من دونالد ترمب، حيث سيتم ترحيله لسجن مخصص لعتاة المجرمين في السلفادور على الأرجح، ويا لها من مفارقة، فإن الاتفاق بخصوص ذلك تم قبل شهرين في البيت الأبيض مع رئيس السلفادور المنحدر من أصول فلسطينية، نايب «نائب» بوقيلة!
من الظلم في حال عدم معرفة الأسرة بنواياه الإجرامية دفع الثمن، لكن من حق وواجب البلاد المضيفة، أمريكا وولاية كولورادو أن تعيد القادمين غير الشرعيين من حيث أتوا.. وذلك مصير يقرع ناقوس الخطر من جديد أمام من يقومون بالتحريض على القتل سواء في الوسط «الديني» أو السياسي أو الإعلامي. تلك رسالة، إما أن يكون المحرضون شركاء في الغرم لا «المغنم» فقط، وإما أن تتحمل مسؤولياتها أمام الله، والأوطان والشعوب والأسر والأفراد. فالعمل الإرهابي، خاصة لمن يسمون ذئابا منفردة، أو أفرادا «لا يمثلون إلا أنفسهم» سبقه الكثير من الشحن العاطفي والحشد السلوكي غير السوي. اسم المجرم نشر ثلاثيا وكذلك صورته وصورة ابنته الكبرى. ومن يدري قد تتداخل دوائر الإشهار بالتشهير، فيتراكم الألم الذي سينسى الناس بدايته الأولى، وتبقى وحدها المعاناة في الحياة الأسرية الخاصة لذلك المجرم الأرعن المدان الذي يقال إنه ينتمي إلى تنظيم سيصار إلى حظره قريبا في أمريكا، بعد أن كاد في ولاية ترمب الأولى..
لم يغب عن بالي وأنا أتابع بألم فصول هذه المأساة الإنسانية بكل أطرافها، ذلك الأب، وهو من السلك الدبلوماسي الذي قام بالتبليغ عن فلذة كبده بعدما رصد تطرفا في فكر ابنه وسلوكه. كان ذلك الإرهابي العشرينيّ المحكوم بالسجن مدى الحياة، قد باشر في تنفيذ مخطط إرهابي لتفجير طائرة أمريكية في رحلة عيد الميلاد المجيد سنة 2009. عرف منذ ذلك اليوم ب «مفجر اللباس» ونسي الناس اسمه واسم بلاده، حيث قام ذلك الإرهابي المعتوه بحشو المتفجرات في لباسه الداخلي!
تأبى النفوس الحرة التشهير بالناس لكنها تحرص على إشهار موقفها مما يندى له الجبين. نشر أسماء وصور الخارجين على القانون حق للناس وخاصة من يحرصون على دوام نِعم الأمن والأمان. نعَم هي نِعم كثيرة يحققها الأمن والأمان. فبارك الله فيمن حفظها للناس أجمعين.. ــ الدستور

مواضيع قد تهمك