حسين بني هاني : مقاول عقارات في البيت الأبيض
زعيم منفلت من عقال السياسة، تقدّم به العُمر ، وبدت المسافة -في المؤتمر الصحافي-، بين عقله ولسانه قصيرةٌ جداً، تماماً وفق الحالة الذهنية المعروفة أصلاً لكبار السن، ومن هم على شاكلته ممّن بلغ مثله من العمر عتيّا ، خاصة بعد أن أخذ يهرف بما لا يعرف عن الشرق الأوسط، ومشاكله المزمنة، وبدا كمن يقود مركب البيت الأبيض - خلال حديثه - بسرعة قصوى ،ودون وضع حزام أمان يقيه شرّ الطريق ، عندما يكون الإنعطاف صعبا أو الوقوف المفاجىء خطير، مما جعل الأبصار تشخصُ خلف راحلته ، بل زاغ بصر ضيفه نتنياهو وهو ينظر ويستمع إليه، وحاول الاخير ان يستغبي نفسه ، كي يصدّق ويهضم ما فضفض وتلفّظ به الرئيس، لم يخطر ببال ساكن آخر في البيت الابيض قبله، أن يخرق طبلة السياسة هذه ويكسر مزمارها بهذا الشكل ، الأمر الذي دفع السيناتور الديمقراطي كريس ميرفي للقول، أن الرجل " فقد عقله تماماً " بل يصعب التنبؤ بافكاره او حتى فك رموزها .
فكرة ترامب للاستيلاء على غزة، وتهجير شعبها بحجة تطويرها، بدت وكأنها صورة من صور عصر الظلمات، ذاك العصر الذي ساده الفوضى وحفل بالخرافات ، خانه التعبير وهو يحاول تسكين المشهد في وعي الناس، لانه أصلاً لايعلم أن حيلة المقاول ، تختلف عن خديعة السياسي ، التي يتقن نتنياهو غزل خيوطها وحياكة فنونها بل ويحسن اخراجها أيضاً ، خاصة حين تحدّث الاول عن ريفيرا الشرق الأوسط على أنقاض غزة المدمرة .
عَرضْ ترامب الذي قدمه لاسرائيل ، عرض مدهش ومسكون بالتكهنات والتحليل والتأويل من قبل المتطرفين في إسرائيل ، ولكن الكاهن المسيّس نتنياهو ، يدرك أن الأمر ليس بهذه السهولة ، التي تفوه بها ترامب، ولذلك شاهده الجميع وهو يخفي ابتسامة صفراء، غالبه فيها الضحك على استحياء ، من هول وضعف منطق الرئيس وقلة حيلته، التي يعرف نتنياهو أن ترامب ، لم يقصد بها سوى رمي طوق نجاة له لاستمرار حكومته، لكنه يعرف ايضا أن من يركب قطار ترامب السياسي، في المنطقة لا يأمن الطريق ولا يعرف أين سيستقر به الأمر . كل ما كان يريده نتنياهو من ترامب في هذه المرحلة ، هو مساعدته في بقاء وتماسك حكومته بعد المرحلة الثانية من اتفاق غزة ، وهو الأمر الذي لم يلتقطه شركاؤه المبتهجون في الحكم ، وبعد ذلك لكلّ حادث حديث، رغم أنه يعلم أن ما أشار له ترامب، لا يعدو كونه فانتازيا عقاريّة، جعلته قسرا يبتهج ، ويغوص في مشاعر مختلطة ، تتراوح بين التصديق والاستغراب ،وهو الذي يعرف أن المسألة اكثر تعقيدا مما يفكّر به ترامب .
طبيعي أن يأخذ الساسة والناس ،كلام ترامب على محمل الجدّ ، رغم أنّ فكرته اصلا محض افلاس اخلاقي يسندها جنون العظمة والقوة، وهو لايريد أن يعترف بذلك ويقول أن الجميع أحبّوا أفكاره ، رغم عاصفة الانتقاد العالمية، التي رافقت تصريحاته ، بعد أن غيّبه انشغاله المزمن بتجارة العقارات، عن معرفة أنّ التهجير القسري، الذي قارفه اليهود عام ٤٨ ويريد أن يفعله هو اليوم ، هو الذي جعل معظم سكان غزة لاجئين في وطنهم، وأن غزة التي يريد أن يهجّرهم منها، هي آخر ملاذ لهم ،وآخر موطيء قدم يذكّرهم بالظلم التاريخي الذي لحق بهم .
لا أظن أن ترامب زان خطواته بدقة، واحتسب آثارها على مصالح واشنطن في المنطقة، بعد عاصفة الرفض الكبير، التي اطلقها زعماء العرب ، وساندهم بها معظم المسؤولين في العالم ضد تلك التصريحات، الأمر الذي دفع المتحدثة باسم البيت الأبيض، للإسراع لتوضيح ذلك ، وبما يفيد بأن ترامب لم يقصد ارسال قوات إلى غزة .
تهجير الناس في القرن الواحد والعشرين، هو محض خيال كما قال الأمير تركي الفيصل، لن يتسامح معه العالم، وغير قابل للاستيعاب ويؤجج الصراع، وأظن أن الوقت لن يطول للمرور عنه مرور الكرام ، إذا تماسك الموقف العربي ضده . فقد هدّد ترامب وتوعّد في نسخته الأولى، كوريا الشمالية بالويل والثبور بسبب برنامجها النووي ، وخرج من البيت الأبيض قبل أربعة أعوام دون أن يفعل بها شيئاً يذكر.