الأخبار

القس سامر عازر : الوئام الديني رافعة من روافع الوطن

القس سامر عازر الوئام الديني رافعة من روافع الوطن
أخبارنا :  

القى القس سامر عازر محاضرة بعنوان: الوئام الديني والفسيفساء الوطنية في الندوة التي اقيمت في إتحاد الكتاب والأدباء الأردنيين ، وتاليا المحاضرة :
عنوان الندوة "الوئام الديني والفسيفساء الوطنية"، ماذا أجمل من لوحة الفسيفساء mosaics، فلكُّل حجر فيها مهما كان صغيراً مكانه، واللوحة الفسيفسائية لا تكتمل إلا بكامل حجارتها فتسمى عندها لوحة فسيفسائية. ما يميّزها هو تراص كلُّ حجارتها بأشكالها المتنوعة وألونها الزاخرة فتعكسَ صورةً جميلةً يستهوِيها القلب قبل العينين. والأردُّنُ حقيقةً بشعبه وقيادته الهاشمية المباركة يجسد لوحةً فسيفسائية نادرة أصبح يشار إليها عالمياً بالبنان، ومرجعاً للتَعَلُّم منها حقيقةَ الوئام الديني والعيش المشترك الإسلامي-المسيحي في بوطقة المواطنة التي توحِّد القلوب معاً في محبةٍ أخويةٍ صادقةٍ عنوانها " الدين لله والوطن للجميع"، وما يعنيني من دينك هو تعاملك مع الآخرين وما ينعكس من صلب ذلك الدين في الوفاء والأمانة والإخلاص والإنسانية، ف "الدين معاملة"!
"ونحن مهما اختلف الدين بيننا والسُننُ .. اخوةٌ يجمعنا في الله هذا الوطنُ"
عنوان ورقتي " الوئام الديني رافعة من روافع الوطن"

مقدمة:
في يوم من الأيام وفي وقت موعد الصلاة اقترب رجل مسلم من راهبة مشرفة على دير، فسألها في أي مكان يمكنني أن أصلّي، فأجابته بإبتسامة: " نقي قلبك وصلّي حيثما شئت". وجدت هذه أجمل مقدمة للحديث عن موضوع ورقتي:
"الوئام الديني كرافعة من روافع الوطن"،

أحيانا كثيرة نهتم بفرائض وطقوس العبادة وننسى أهمَّ في ما في العبادة وهو نقاوة القلب. جاء في الإنجيل المقدس " طوبى لأنقياء القلب لأنهم يعاينون الله". تَرَى، لا يَغُرّنكم ممارسة الناس للشعائر الدينية، فقد تكون مجرد شعائر خارجية لم تمّس بعد شغاف القلب ولم تنبع أصلا من أعماقه. فكم من أناسٍ يصلّون ويصومون ويزكون ويحجون ويقرُّون بإعتراف إيمانهم جريا على عادة، وهذا أخطر ما في الدين وما في التدّين، فقد تدّين سطحي أو تديّن مجامِل أو تدّين كاذب أو تدّين بهدف تحقيق مآرب مالية أو إقتصادية أو سياسية أي الإختباء خلف عباءة الدين وليس تدين إيماني ينعكس على شخصية الإنسان وتعامله مع الآخرين.

نحن في موضوع "الوئام الديني" بالتحديد لسنا بصدد البحث أو الغوص في العقائد الدينية المختلفة لأثبات صحتها أو بطلانها ف- "لكم دينكم ولي دين"، ولكننا نعرف أنَّ الدينَ محبة والدين معاملة. لذلك نحن لسنا في صدد نقد العقائد أو مصالحتها مع بعضها البعض، ولسنا في صدد البحث عن طرق وأساليب العبادة وشكلها، فالإختلاف موجود، ولكننا في صدد الغوص في عمق الرسالة الدينية التي تقوم عليها الأديان السماوية، وهي حقاً تقوم على قاعدتين أساسيتين، هما:
محبة الله ومحبة القريب
إذاً نحن في موضوع الوئام الديني في صدد البحث عن المشتركات الكثيرة أو الجوامع الكثيرة التي تجمعنا سوية كبشر من طين واحد وكلّها تدعونا لأن نحب نحب الله ونعبده بالروح والحق لأنَّ "الله محبة". كذلك أن نحب القريب. فهناك مسؤولية الواحد منّا تجاه الآخر والأمثلة كثيرة من السنّة النبوية الشريفة وفي حياة السيد المسيح.
ففي الكتاب المقدس عندما حَنَقَ قايين على أخيه هابيل قام وقتله حقدا وحسدا لأنَّ تقدمته لله كانت مقبولة أكثر من تقدمه أخيه، فسأل الله قايين " أين هابيل أخوك. فقال لا أعلم. أحارس أنا لأخي. فقال ماذا فعلت. صوت دم أخيك صارخ إليّ من الأرض" ( تك 4: 9-10). وصوت دماء الشهداء والأبرياء ما زال يصرخ لله، ونحن مساءلون ماذا فعلنا!
إذا الله سبحانه وتعالى يسائلنا عن أخوتنا في الإنسانية، والأخ/الأخت أوسع من مجرد صلة الدم أو رابطة الدين بل تتعدى ذلك بكثير إلى الأخوة الإنسانية ، وكما يقول الإمام علي ابن أبي طالب كرم الله وجهه: «النّاسُ صِنْفانِ إمّا أَخٌ لَكَ في الدِّيْنِ، أو نَظِيرٌ لَكَ في الخَلْقِ». وكما جاء في الكتاب المقدس " وتحب قريبك كنفسك"، فقريبنا هو كل من يشترك معنا في الإنسانية. فمِن الجُرم بعينه أن تنظر لأخيك في الإنسانية المختلف عنك عقائديا أو دينيا أو عرقيا نظرة لا مبالاة أو نظرة أقل إنسانية أونظرة دونية أو نظرة أقل احترام أو نظرة بعيدة عن حقوقه وكرامته وحريته. فعمق الإيمان يتجسد في نظرتنا وتعاملنا مع الآخرين المختلفين عنّا فكراً وعقيدة وعبادة، مما يدعونا لأن نبحث معاً عن القواسم المشتركة في هذا البيت الإنساني الكبير، فنحن لم نخلق لندين العالم فالله ديّان العالمين، بل خُلقنا لنعيش قيم السماء وفكر السماء في حياتنا. فدعوتا في الله الحّي الصمد أن نؤنسن عالمنا الذي سقطت معاييره خصوصا بعد الحرب على غزّة، فحتى الحروب لها محدداتها تجاه المدنيين العزّل وتجاه الأسرى وتجاه الإطفال والنساء والشيوخ والمرضى ودور العبادة من كنائس ومساجد ومدارس ومستشفيات ومراكز الإيواء وغيرها.
وفي معرض حديثنا عن الإنسانية استذكر القسم الطبي قبل مزاولة مهنة الطب الذي يؤديه أي طبيب ممارس لمهنة الطب:
"أقسم بالله العظيم أن أراقب الله في مهنتي. وأن أصون حياة الإنسان في كافة أدوارها، في كل الظروف والأحوال، باذلًا وسعي في استنقاذها من الموت والمرض والألم والقلق، وأن أحفظ للناس كرامتهم، وأستر عوراتهم، وأكتم سرّهم. وأن أكون على الدوام من وسائل رحمة الله، باذلًا رعايتي الطبية للقريب والبعيد، الصالح والطالح، والصديق والعدو..."

إذا، حياة الإنسان هي الأغلى، ف- "الإنسان هو أغلى ما نملك" وهذا ما نحن بصدده في موضوع الوئام الديني.. وكما جاء في القرآن الكريم، " لقد كرمنا بني آدم"، " وفي قول السيد المسيح " وتحب قريبك كنفسك"، فمحبتنا لله تجد عمقها ومعناها من خلال محبتنا لقريبنا الذي نشترك معه في دنيانا.

خلاصة القول، أنَّ الأديان دعوة لنا لعبادة الخالق جلَّ جلاله وعظمت قدرته، ولإنفتاحنا على الآخرين والتحاور معهم والتعاون معهم على البّر والتقوى.

السؤال الآن، كيف نُعرّف الوئام الديني، وكيف يكون الوئام الديني رافعة من روافع الوطن؟
مفهوم الوئام الديني Religious Harmony
الوئام الديني هو حالة من التفاهم والتسامح بين الأفراد والجماعات ذات الانتماءات الدينية المختلفة (بمعنى آخر قبول بعضنا بعضا كما نحن)، بحيث يسود الاحترام المتبادل والتعاون لبناء مجتمع يعزز القيم الإنسانية المشتركة.
النموذج الأردني في الوئام الديني
يُعد الوئام الديني ركيزة أساسية في بناء المجتمعات المتماسكة، ويُشكل أحد أهم مقومات استقرار وازدهار المملكة الأردنية الهاشمية. فالأردن، يحتضن تاريخًا عريقًا من العيش المشترك والأخوّة الإسلامية-المسيحية، ويُعتبر نموذجًا متميزًا للوحدة الوطنية القائمة على الإحترام المتبادل وقبول الآخر.
الأردن يمتاز بتاريخه الذي يَبرُزُ فيه التنوع الديني كعنصر قوة. عشنا معاً كأخوة الدم بشكل منقطع النظير طوال القرون الماضية وما زلنا، مما أرسى قاعدة متينة من التسامح وقبول الآخر والإحترام المتبادل وتآخي العائلات والعشائر الأردنية مع بعضها البعض، ويتجلى ذلك في العديد من المواقف والمناسبات الدينية والوطنية والعادات والتقاليد العشائرية والمبادرات الخيرية والمجتمعية.
من أبرز الشواهد على هذا الوئام الديني والعيش المشترك الوصايةُ الهاشميةُ على المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس الشريف، وهي مسؤولية تاريخية تُعبر عن التزام القيادة الأردنية بالحفاظ على التراث الديني والإنساني في المنطقة. وما الرعاية والعناية الملكية لتطوير موقع عمّاد السيد المسيح " المغطس" وتعيين مجلس أمناء يرأسه سمو الأمير غازي بن محمد المعظّم إلا دلالة عظيمة على الإهتمام بواحد من أهم المواقع المسيحية قدسية في العالم، ومؤشر على الإعتراف الملكي واعتراف الدولة الأردنية بالمكون المسيحي العربي الأصيل لبلادنا المقدسة ومشرقنا العربي، والدور العربي المسيحي في بناء الحضارة العربية والإسلامية، وكذلك في أهمية استمرارية هذه الفسيفساء الوطنية في بناء الوطن الأردني الجميل .
كيف يعمل الوئام الديني في بناء المجتمع الأردني؟
1. تعزيز الاستقرار الاجتماعي: الوئام الديني يساهم في تقوية النسيج الاجتماعي والروابط بين الناس. ويعزز الشعور بالانتماء.
2. تحقيق التنمية المستدامة: المجتمع المتماسك دينيًا قادر على توجيه طاقاته نحو البناء والتطوير، بدلًا من الصراعات.
3. إثراء الثقافة الوطنية: التنوع الديني يُضيف عمقًا ثقافيًا وحضاريًا يُعزز الهوية الوطنية الأردنية التي تجمع الجميع في إطار المواطنة وسيادة القانون والدستور الذي ينص في المادة 6-1 "اﻷردﻧﯾون أﻣﺎم اﻟﻘﺎﻧون ﺳواء ﻻ ﺗﻣﯾﯾز ﺑﯾﻧﮭم ﻓﻲ اﻟﺣﻘوق واﻟواﺟﺑﺎت وإن اﺧﺗﻠﻔوا ﻓﻲ اﻟﻌرق أو اﻟﻠﻐﺔ أو اﻟدﯾن".

جهود المملكة في تعزيز الوئام الديني
• مبادرات الحوار: أطلق الأردن مبادرات مثل "رسالة عمان” 2004 التي تؤكد على القيم المشتركة بين الأديان وتعزز التفاهم العالمي. كذلك كلمة سواء 2007، والأسبوع العالمي للوئام بين الأديان 2010
• القوانين والتشريعات الداعمة: تسعى القوانين والتشريعات الأردنية إلى حماية حرية الاعتقاد والممارسات الدينية لجميع المواطنين.
• التعليم: إدراج قيم التسامح وقبول الآخر في المناهج الدراسية يُعزز من الوعي بأهمية الوئام الديني لدى الأجيال القادمة.
• التركيز على الخطاب الديني والخطاب الإعلامي عبر بث روح المحبة والأخوة والتعددية الدينية والروح الوطنية.
التحديات وآفاق المستقبل
رغم النجاح الكبير الذي حققه الأردن في هذا المجال، إلا أن هناك تحديات مثل التأثيرات الخارجية ومحاولات بث الفرقة. وكذلك تحديات داخلية مثل تبنّي البعض للإيديولوجيات ضيقة الأفق التي تكفّر الآخر وتدعو إلى عدم معايدته أو التفاعل المجتمعي معه. ومع ذلك، فإن قوة الإرادة السياسية والمجتمعية الأصيلة في مجتمعنا الأردني كفيلة بمواجهة هذه التحديات وضمان استدامة الوئام الديني.
خاتمة
الوئام الديني ليس مجرد مفهوم نظري، بل هو ممارسة يومية تُظهِر مدى تقدُّم المجتمع الأردني وانفتاحه وقدرته على مواجهة التحديات. إن التمسك بحالة الوئام الديني يعزز من مكانة الأردن كنموذج عالمي في الوئام الديني والعيش المشترك وبناء مجتمع مستقر ومزدهر.
والوئام الديني ليس نهاية بحد ذاته وإنما سيلة للتعارف والتقارب وبناء جسور المحبة والسلام والأخوة والصداقة والإستقرار وقوة النسيج المجتمعي لبنيان المجتمع ونهضته ومنعته ضد قوى التطرف والتعصب والإرهاب وللمساهمة في بناء عالم أفضل تسود فيه القيم الروحية والإنسانية.

مواضيع قد تهمك