د محمد عبد الستار جرادات : رؤية الحكومة الأردنية في خطاب الثقة: آفاق جديدة لبناء الاقتصاد الوطني
الدكتور محمد عبدالستار جرادات
في الخطاب الذي قدمه رئيس الحكومة الأردنية أمام مجلس النواب، قدمت الحكومة رؤية شاملة تهدف إلى تحقيق التحديث الشامل في مختلف المجالات الحيوية التي تضمن استدامة التنمية في المملكة. هذا الخطاب كان بمثابة خارطة طريق للمرحلة المقبلة، حيث ركز على عدة محاور أساسية تضع في صميمها التنمية الاقتصادية، تعزيز الاستقرار المالي، تحسين الخدمات العامة، وتوفير بيئة مواتية للنمو الاجتماعي والاقتصادي. ومن خلال هذه الرؤية، تسعى الحكومة إلى استعادة ثقة المواطن وتعزيز موقف الأردن على المستوى الإقليمي والدولي.
كما يُعد التحديث الشامل الذي أكد عليه الخطاب أحد الركائز الأساسية التي ستسند إليها الحكومة مشاريعها المستقبلية. هذا التوجه يهدف إلى تحسين النظام السياسي والإداري من خلال إصلاحات تشريعية وقانونية ترتكز على تعزيز الشفافية والمساءلة، في محاولة لتأسيس بيئة سياسية أكثر استقراراً. كما تسعى الحكومة إلى تحسين أداء المؤسسات العامة عبر التحول الرقمي الكامل في تقديم الخدمات الحكومية، وهو ما سيؤدي إلى زيادة كفاءة الأداء الحكومي من جهة، وتسهيل الوصول إلى الخدمات من جهة أخرى. إن أتمتة الخدمات الحكومية بنسبة 80% في العام المقبل للوصول إلى 100% بحلول عام 2026، يُعد تحولاً جذرياً في طبيعة العمل الحكومي وهو ما يعكس رغبة الحكومة في مواكبة التطورات العالمية في مجال التحول الرقمي.
ومن أبرز ما تم التأكيد عليه في خطاب الثقة هو الدور المحوري الذي سيلعبه الشباب في خطة الحكومة المستقبلية والبرامج التدريبية والتطويرية خاصة، ليكونوا قادة التغيير في المستقبل. ويبدو أن هناك استراتيجية واضحة لتمكين الشباب من خلال توفير فرص التدريب في المجالات المهنية والتقنية، مع التركيز على الربط بين التعليم وسوق العمل، مما سيتيح لهم الفرص لتحقيق النجاح المهني والاقتصادي. في هذا السياق، لا تقتصر سياسات الحكومة على زيادة نسبة فرص العمل، بل تتعداها إلى تحسين نوعية هذه الفرص وتوسيع نطاقها بما يتماشى مع متطلبات العصر.
أما في مجال الصحة والتعليم، فقد وضعت الحكومة خططاً طموحة تهدف إلى تحسين مستوى الخدمات المقدمة في هذين القطاعين. فالتغطية الصحية الشاملة، والتي تعتبر من الأولويات في الخطاب، ستتمكن من توفير خدمات صحية لكافة المواطنين، وهو ما يعد خطوة كبيرة نحو تحقيق العدالة الاجتماعية.
وبالنسبة لقطاع التعليم، فقد كانت هناك إشارات واضحة إلى ضرورة تحديث المناهج الدراسية وتطوير التعليم المهني والتقني، بما ينسجم مع احتياجات سوق العمل والفرص الاقتصادية الجديدة التي تفتحها التكنولوجيا الحديثة. هذه الإصلاحات تهدف إلى تجهيز الأجيال القادمة بالمهارات التي تحتاجها للنجاح في الاقتصاد المعرفي.
وفيما يخص قطاع السياحة، أكد خطاب الحكومة على أهمية هذا القطاع كأحد أعمدة الاقتصاد الوطني ومصدر أساسي للعملات الأجنبية. وتعمل الحكومة على تطوير المنتج السياحي الأردني ليشمل مزيداً من التنوع والابتكار، بما في ذلك السياحة العلاجية، والسياحة الدينية، والسياحة الأثرية. كما تسعى إلى تعزيز الترويج السياحي للأردن عالمياً، والاستفادة من مكانته كوجهة فريدة بفضل تنوعه الجغرافي وتراثه الثقافي. تحسين البنية التحتية للمواقع السياحية وتقديم التسهيلات للمستثمرين المحليين والأجانب في هذا المجال يعد من أولويات الحكومة، حيث تم التركيز على رفع كفاءة المنشآت السياحية وتطوير الخدمات المساندة لجعل تجربة الزائر أكثر جذباً وتميزاً.
من جانب آخر، يبرز التزام الحكومة بتعزيز الحوكمة في القطاع العام من خلال مراجعة التشريعات الخاصة بإدارة الموارد البشرية، وتحسين النظام الوظيفي بما يضمن العدالة والكفاءة في التعيين والترقية. تحسين مستوى الأداء الحكومي عبر برامج تدريبية نوعية من شأنه رفع كفاءة العاملين في القطاع العام، وهو ما يعكس سعي الحكومة لتحقيق التميز في تقديم الخدمات.
أما فيما يتعلق بمشروع الناقل الوطني للمياه، فقد أبرزت الحكومة التزامها بتحقيق الأمن المائي كجزء لا يتجزأ من الأمن القومي. يُعد هذا المشروع خطوة استراتيجية لمعالجة تحديات ندرة المياه التي تعاني منها المملكة بتوفير مصادر مياه جديدة ومستدامة، حيث تسعى الحكومة إلى ضمان استمرارية تلبية احتياجات السكان والقطاعات الاقتصادية المختلفة.
يُعتبر هذا المشروع أيضاً فرصة لتعزيز التعاون الإقليمي والدولي في مجال إدارة الموارد المائية، بالإضافة إلى كونه محفزاً للتنمية الاقتصادية من خلال المشاريعالمرتبطةبه.
وطرحت الحكومة في خطابها مشروع المدينة الجديدة و هو مثال آخر على الرؤية الاستراتيجية طويلة الأمد التي تسعى الحكومة لتحقيقها. فإقامة مدينة جديدة بالقرب من عمان والزرقاء تأتي في إطار معالجة التحديات الناتجة عن النمو السكاني المتزايد وتوفير فرص سكنية ملائمة للمواطنين. هذا المشروع لا يقتصر على الجانب الإسكاني فحسب، بل يتعداه إلى تحسين جودة الحياة من خلال إنشاء بيئة حضرية ذكية تستند إلى تقنيات حديثة وتوجهات بيئية مستدامة.
وفيما يتعلق بالمالية العامة، فقد ركز خطاب الحكومة على تقديم موازنة 2025 التي تهدف إلى تحقيق النمو الاقتصادي وتعزيز الإيرادات المحلية. كما شددت الحكومة على ضرورة تقليص العجز المالي، وهو ما يتحقق من خلال تحسين كفاءة الإنفاق العام وتوسيع نطاق مكافحة التهرب الضريبي وخفض الدين العام الذي كان أحد الأهداف طويلة الأمد، حيث تسعى الحكومة إلى تقليص نسبة الدين من الناتج المحلي الإجمالي من 90% إلى 80% بحلول عام 2028، وهو هدف يتطلب تنفيذ استراتيجيات اقتصادية دقيقة توازن بين تحقيق النمو وتحقيق الاستقرار المالي.
في خضم هذه التوجهات، تبرز ضرورة تطوير مؤشرات أداء خاصة بالموازنة، تتيح للحكومة والمؤسسات الرقابية متابعة تنفيذ السياسات المالية والاقتصادية وتقييم أثرها الفعلي على الأرض. هذه المؤشرات يمكن أن تشمل:
• مدى التقدم في تنفيذ المشاريع الكبرى وفق الجداول الزمنية والتكاليف المخطط لها.
• قياس تطور معدلات العجز المالي والدين العام مقارنة بالمستهدف.
• تقييم التحسن في المؤشرات الاجتماعية والاقتصادية، مثل معدلات خلق فرص العمل وزيادة القدرة الشرائية.
• متابعة نمو الناتج المحلي الإجمالي ومدى تأثير السياسات الاقتصادية في تحقيق هذا النمو.
إضافة مثل هذه المؤشرات يعزز الشفافية والمساءلة، ويضمن تحقيق الأهداف المرسومة في الموازنة، بما ينسجم مع خطاب العرش الذي شدد على ضرورة العمل الجاد لتعزيز التنمية الاقتصادية وتحسين معيشة المواطن.
وفي المجمل، فإن موازنة 2025 تمثل خطوة جريئة نحو ترجمة خطاب العرش السامي ورؤية التحديث الاقتصادي إلى إجراءات فعلية وقرارات حاسمة. عبر الاستثمار في البنية التحتية والمشاريع الكبرى، وضبط الاستدامة المالية، وتحفيز النمو الشامل.
ترسم هذه الموازنة معالم طريق جديد للاقتصاد الأردني، يوازن بين التحديات الراهنة والطموحات المستقبلية، لتظل المملكة نموذجاً للاستقرار والنمو في المنطقة.
بناء على هذه الرؤية الشاملة، يمكن القول إن الحكومة الأردنية تبني استراتيجيات مستقبلية تأخذ بعين الاعتبار التحديات الاقتصادية والمالية والاجتماعية التي تواجهها المملكة. ورغم أن التنفيذ سيكون مليئاً بالتحديات، إلا أن التوجهات الحكومية تشير إلى استعداد كامل للتكيف مع المتغيرات الاقتصادية والظروف العالمية. وتنفيذ هذه الإصلاحات بنجاح يتطلب مزيجاً من الحكمة في اتخاذ القرارات، الكفاءة في التنفيذ، ومرونة في التكيف مع الظروف المتغيرة، مما يضمن تحقيق أهداف الحكومة في بناء دولة حديثة ومزدهرة.
حمى الله الأردن، حمى الله الملك و وليعهدهالأمين.