أ. د. هاني الضمور : بين جاهليتين: حديثة تتعرى وقديمة تستر
في عالمنا اليوم، يبدو الحديث عن الحرية وكأنها شعارات جوفاء يرددها الجميع دون أن يعيشها أحد. فبين ضجيج الإعلام وصخب التكنولوجيا، تسلب الإنسانية تدريجيًا جوهرها الحقيقي. وسط هذا المشهد، تبرز فلسفة علي عزت بيجوفيتش كدعوة ملحة للعودة إلى الجذور الأخلاقية والروحية المستوحاة من القرآن الكريم. بيجوفيتش، الرجل الذي قاد البوسنة والهرسك في أحلك ظروفها، لم يكن فقط سياسيًا أو مفكرًا عاديًا، بل كان صوتًا ينبه البشرية إلى خطر التخلي عن القيم التي تجعلها إنسانية.
القرآن، كما يرى بيجوفيتش، يضع الحرية في صميم التكليف الإلهي. الآية الكريمة «وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ» ليست مجرد دعوة لاختيار الإيمان، بل تأكيد على أن الإنسان لا تكتمل إنسانيته إلا حين يكون حرًا في قراراته ومسؤولًا عن نتائجها. هذه المسؤولية، في رأي بيجوفيتش، هي ما يميز الإنسان عن الحيوان، وهي ما يجعل أي محاولة للتلاعب بالناس، حتى لو بدت في ظاهرها لمصلحتهم، عملاً غير أخلاقي. لكنه في الوقت ذاته يحذر من الفوضى التي تأتي باسم الحرية، حيث تتحول الحرية من وسيلة لتحرر الإنسان إلى غطاء يبرر الانحراف عن القيم الأساسية.
الإنسان، وفقًا لبيجوفيتش، مخلوق متوازن بين الروح والجسد، وهو ما يعكسه الإسلام كدين يدمج بين المادي والمعنوي. اليوم، هذا التوازن مفقود. الحداثة التي كان من المفترض أن ترفع من شأن الإنسان، حولته إلى كائن استهلاكي، منفصل عن روحه ومتشبث بمظاهر الحياة المادية. في القرآن، نجد تحذيرًا واضحًا لهذا المسار حين يقول الله تعالى: «أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا». بيجوفيتش يرى أن المجتمعات التي تنغمس في الملذات المادية دون وعي أخلاقي وروحي تصبح أكثر عرضة للانهيار الأخلاقي، وهذا ما نراه جليًا في عالم اليوم.
الإعلام، الذي من المفترض أن يكون وسيلة لنقل الحقيقة وتثقيف الشعوب، أصبح أداة للتلاعب الجماهيري. بيجوفيتش، في وصفه لهذا الواقع، قال إن وسائل الإعلام الجماهيرية ليست سوى سلاح يستخدم لإنتاج جمهور سلبي، يستهلك ما يُقدم له دون تفكير. في عصرنا الحالي، هذه الحقيقة تتجلى بوضوح في سيطرة الأخبار الزائفة والمحتوى التافه الذي يشوه القيم الإنسانية ويطغى على المحتوى الهادف. القرآن الكريم ينبّه إلى خطورة اتباع ما لا يُبنى على العلم والحقيقة بقوله: «وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ». لكن يبدو أن هذه القيم القرآنية تُهمّش في عالمنا لصالح تيارات تسعى لترويض الإنسان بدلاً من تحريره.
الدين، كما يراه بيجوفيتش، ليس طقوسًا جامدة ولا نظامًا قانونيًا فقط، بل هو منارة أخلاقية توجه الإنسان نحو العدالة والحرية. الإسلام، بحسب رؤيته، ليس مجرد دين فردي بل رسالة حضارية. إذا فصلنا الدين عن الأخلاق أو اختزلناه في ممارسات شكلية، نخسر روحه الحقيقية. وفي المقابل، إذا تجاهلنا أبعاده الروحية لصالح نزعة مادية بحتة، نصبح مجرد أدوات في آلة الإنتاج.
ما يحدث اليوم من انتشار للممارسات غير الأخلاقية ليس إلا نتيجة مباشرة لغياب التربية القيمية التي يدعو إليها القرآن. التعليم، كما قال بيجوفيتش، لا يكفي وحده. فالمعرفة بدون الأخلاق تصبح سلاحًا يُستخدم في خدمة الظلم. الحل ليس في مزيد من القوانين أو الأنظمة، بل في العودة إلى منظومة القيم القرآنية التي تجمع بين الحرية والمسؤولية، بين العلم والأخلاق.
بينما نحن غارقون في صراعات لا تنتهي وأزمات أخلاقية تهدد وجودنا، تأتي كلمات بيجوفيتش لتذكرنا بأن الإنسانية لا تُختزل في التقدم المادي أو التكنولوجيا الحديثة. الإنسانية، كما أرادها القرآن، تكمن في فهم الإنسان لذاته ولرسالته كخليفة على الأرض. السؤال الذي يتركه لنا بيجوفيتش: هل نحن أحرار حقًا أم أننا أدوات تُحركها قوى أكبر منا؟ الإجابة قد نجدها في العودة إلى القرآن والبحث عن المعاني التي تجعلنا بشرًا. ــ الدستور