علي البلاونة : الوجه الإنثروبولوجي للانتخابات
ضمن تحليل سيكولوجي سسيولوجي، تلد غالبية المجتمعات في ظروف معينة نمطا جديدا من الشخصيات البراغماتية اجتماعيا، وهذه الشخصيات تجدها في كل ترح أو فرح، مرحة وخاشعة، ولها في كل باب ودرب حضور، وهذه الفئة امتهنت دون وعي وإدراك مهنة الاتصال الاجتماعي، ولذا كانت لها دون غيرها حصيلة معلوماتية وأفكار وتجارب خلافا لغيرهم، وهذه الأفكار مكنتهم من تجاوز المخاوف والأخطار، وامتلكت فن الملاسنة والمجادلة، ولهذا كان حضورها نوعا من السخرية بالنمطيات التقليدية، وأنشأت بذلك طقوسا خاصة بها، عابرة للوجاهة والرزانة الأردنية، فيها بعض المرونة والتيسير، في قضايا محرمة اجتماعيا.
في سنوات خلت برزت هذه الفئات في مجتمعاتنا العربية فهم في العراق العيارون والشطار والشقاوات، وفي مصر الحرافيش والعياق والزعران والفتوات والسرسرية، وفي الخليج المهايطية والشلاليخ، ولكن هذه الفئات حديثا وبسبب انقلاب المعايير، أصبحت تقع تحت مسمى شخصيات اتصالية لديها كم هائل من العلاقات والمعارف، ليس شرطا أن تكون وازنة أو مؤثرة، ولكن لديها مرونة وقابلية للعبور، وما أسبغه المجتمع على هذه الفئة من أوصاف، هو نتاج الحاجة المجتمعية لشخصيات مرنه تمتلك القدرة على الاتصال والتأثير، ولهذا تجد أحدهم منبوذا من ناحية إجتماعية، لكنه ذا حضور في أوساط النخبة التنفيذية، وذلك لأن الاشتراطات الاجتماعية قاسية بعض الشيء، خلافا عنها وسط النخبة التي تركز على العلاقة دون أبعادها المجتمعية.
خلال فترة الانتخابات البلدية والنيابية يستشعر المرشحون أهمية وعنصر التسويق والتشويق وكسر الحواجز وبث الصورة المطلوبة إجتماعيا، وأحيانا منحها أوصافا خارقة للعادة، لأن مهنة هذه الفئة قائمة على التأثير في الوعي وتعزيز حالة الانقيادية والشعبوية، ونظرا لما لديهم وفي جعبهم من أخبار ومعلومات وأفكار، وجرس معين في الكلام، وطريقة قصصية فيها دلالة مشبعة بالقدرة على الوصول وتحقيق الأهداف، فإنها شخصيات مطلوبة لمهام محددة، ومن ميزات هذه الفئة أنها متحالفة ومتفاهمة مع بعضها البعض، ولديهم معرفة وإطلاع على قصص بعضهم، وبالتالي يساعدون ويساهمون في بناء الصورة الرمزية لأبناء جماعتهم وفئاتهم.
في العشرينيات، برزت فئة منهم سميت بالصعاليك، ويطلق عليهم البعض حصرا «خوان ردفه» على اعتبار أن ردفة كانت ترأس مجموعة منهم منتشرة في أماكن عديدة، وفي أحايين كثيرة كانوا يجمعون لها الأخبار، فأصبحت مصدرا للمعلومات لا يمتلكه آخرون رغم حضورهم الإجتماعي، وكانوا أيضا يقومون بالدعاية وبث المعلومات التي تمنحهم إياها ردفه، فهي من تشيع بأن فلان حاتمي الكرم، وقالت فيه الشعراء كذا، وفلان بخيل وقالت فيه الشعراء كذا، وأن الأسرة الفلانية قوية وأبناء فلان أسود لا يهابون الموت، وكانت ردفة تطلب كبصارة من قبل القيادات المجتمعية، لأن لديها كامل أسرارهم.
هذه الفئات كانت تحدد القيمة السوقية للاشخاص، من خلال بث الدعاية والإعلام، والعرب قديما تقول « الصيت ولا الغنى» ولهذا يقال غبي من يعادي شاعر، ومجددا قيل غبي من يعادي صحافي، والشاعر والصحافي والصعاليك رغم اختلافهم، بينهم مقاربة البحث عن المعلومات على اعتبار أن المعلومة قوة وسلطة، ولهذا تنتظر العرب « الشطار» وأخوان ردفة في المناسبات وتهتم بحضورهم وبما يليق بحجم معلوماتهم، وتحذر القيادات المقربين منها عدم المساس بهم، حفاظا على حيوية ونوعية وتدفق المعلومات.
وبرزت في الديار الأردنية فترة السلطة العثمانية مجموعة منهم أقرب الى المحامين، ممن يجادلون بحكمة ويستخدمون الدبلوماسية وعنصر التلويح بالتهديد، سواء كان ذلك لرمزيات وممثلي السلطة العثمانية، أو السلطات المحلية، ولهذا انتشرت هذه الفئة وهي تحمل في داخلها ثقافة التحريض والرفض للسلوك العثماني المباشر وغير المباشر عبر أدواته الإقطاعية، وكان للشطار صعاليك أقرب الى المريدين المعجبين بطريقتهم ونفوذهم، خاصة وأن الشطار وعبر الصعاليك كانوا يتحصلون على المال والثروة والنفوذ والسلطة والمعلومات، ولكن غالبية عائداتهم تلك تذهب الى الفقراء والمعدمين وأصحاب الحاجات والمظلومين وغيرهم، أي كانت لديهم أخلاقيات معينة، مما رفع من مكانتهم وشأنهم وحضورهم الاجتماعي.
ومع تطور الدولة والقوانين والأنظمة، والمحاكم والأمن، والتعليم والإعلام، تطورت هذه الفئة وحدث لديها تحولات ثقافية وإقتصادية، فما كان سابقا لم يعد ملائما اليوم، ولكن هذا التحول ظل محافظا على النكهة السابقة، وهذه المرة بعباءة أو ببذلة وربطة عنق ومشاركة لا تنتهي، وهواتف لا تصمت وسوشيال ميديا صداح مداح، وتستعيد هذه الفئة وهجها في المناسبات العامة، وأصبح لتحليلاتهم وتقديراتهم لتوجهات الناخبين، ومواقف النخب والرمزيات ، أهمية كبيرة .
لهذه الفئة قدرة فنية على نحت وسكب المصطلحات وفن اختيار اللقطات والصور، وفي إحدى المرات اضطرت شخصية مرموقة ووازنة، الترشح للانتخابات النيابية، دفع بها للذهاب الى المدن والقرى والقبائل والعشائر والأندية والجلسات، وكانت أخطر الجلسات المكونة للصورة في الرأي العام، جلسة في إحدى القرى حينما أراد أحد الشطار المفذلكين تقديم المرشح، وأخذ يمتدحه مرورا بسيرته الأولى، وأنه صاحب المواقف المشهود لها، وأنه شارك في حرب فلسطين وفي الدفاع عن بلاد المسلمين، فصاح المرشح قائلا: «أي والله لم يبق لديك غير القول وقاتل مع خالد بن الوليد وأبو عبيدة» فضجت القاعة بالضحك، وكانت هذه اللقطة والصورة لا تنسى خلدته في ذاكرة الناخبين، وتداول قصته العديدون، ومكنته من النيابة.
في الاستعداد للانتخابات البرلمانية، على الباحث الأنثروبولوجي ألا ينخرط في العرس وأن يكون جزءا من اللعبة الديمقراطية، بقدر ما عليه دراسة ميكانزمات الانتخابات وإفرازاتها السلوكية والمعيارية والتوقف عند المتغيرات الثقافية، والأنماط الجديدة في المجتمع وتحولاته الكبيرة، وأن يرصد ذلك بوعي، فالمسألة ليست انتخابات فقط، بل قراءة تحليلية وسسيولوجية لتحولات المجتمع. ــ الدستور