الأخبار

د. أسامة ابو الرب : هل احتاجت غزة إلى «الكيتامين» حتى نصل إلى لحظة الحقيقة؟

د. أسامة ابو الرب : هل احتاجت غزة إلى «الكيتامين» حتى نصل إلى لحظة الحقيقة؟
أخبارنا :  

قبل أيام التقيت زميلا كريما سافر إلى قطاع غزة في كانون الأول الماضي، عاملا مع أحدى المنظمات الدولية الصحية. تقابلنا في اربد، حيث يمضي أسبوعين بين عائلته، قبل أن يعود في بداية يوليو الجاري إلى غزة.

حدثني زميلي الدكتور -الذي لن اذكر اسمه ولا تخصصه لاعتبارات معروفة- أنه في بداية الحرب الإسرائيلية كان البنج الطبي المستعمل في العمليات غير متوافر، ولم يكن مسموحا إدخاله من قبل إسرائيل. وفي مستشفاهم لم يكن متاحا لهم سوى مخدر واحد اسمه الكيتامين.

الكيتامين هو عقار يستخدم للتخدير في العمليات، ويستخدمه الأطباء للتخدير العام للإجراءات الطبية التي لا تتطلب استرخاء العضلات.

الكيتامين ليس الخيار الأول في التخدير العام، وهناك عقاقير أحدث. يتسبب الكيتامين بحدوث هلاوس بعد الخروج من العملية، وأذكر أثناء دراستي في كلية الطب أن المرضى الذين كانوا يتلقون هكذا أدوية اثناء العملية، كان يمنع دخول أي من أقاربهم عليهم بعد خروجهم من التخدير، إذ قد ينطق الشخص ويقول أمورا غير حقيقية، او أمورا حقيقية ولكنها جارحة لمن حوله.

زميلي الدكتور قال إنهم استعملوا الكيتامين في العمليات، حتى تسنى لهم لاحقا الحصول على أنواع أخرى من عقاقير التخدير العام.

يقول الطبيب إن مستشفاهم يضم غرفتي عمليات، وقاعة واحدة كان يوضع فيها جميع من خرجوا من الجراحة، ليستفيقوا فيها. فلا غرف متعددة تفصل بين الناس.

في هذه القاعة كان الذي تلقوا الكيتامين يتكلمون بهلاوس بعد العملية، وهنا فأنت تسمع أمورا عجيبة وغريبة، وزميلي الدكتور لم يكن هذا موضوعه.

القصة كانت إنه في إحدى الأيام اجتمع في هذ القاعة ثلاثة غزيين كانوا يستفيقون من الكيتامين. الأول في هلاوسه كان يلقي خطبة حماسية حول طوفان الأقصى وكيف أنه اكتسح دولة إسرائيل، وزعزعها من أساساتها، وهي الآن في طور التهاوي، وكل ذلك بعبقرية المقاومة.

أما الثاني فأخذ يهلوس حول طوفان الأقصى أيضا، مؤكدا أنه كارثة حلت بالشعب الفلسطيني، وأنه أعطى إسرائيل الحجة لتدمير القطاع وفرضة نكبة أكبر من نكبة 1948 نتيجة تهور حماس وعدم تدبرها لمآلات الأمور.

عندها سالت الدكتور: وماذا حدث بعد ذلك؟ ليجيبني أن الرجلين انتبها لبعضهما، فاشتبكا لفظيا، فالأول المؤيد لطوفان الأقصى اتهم الثاني بالعمالة لإسرائيل، أما الثاني فاتهم الأول بأنه عميل لإسرائيل أيضا بتهوره وطيشه!

في المنتصف، وفي سرير يتوسط أسرة الخصمين كان هناك رجل ثالث، أخذ يهلوس، ليتحدث عن إخوته الذين ظلموه في الميراث وألقوه في الشارع ليموت قهرا وجوعا.

انتهى لقائي بالدكتور. وفيما كنت أعود إلى بيتي، أدركت فجأة أن ما جرى في غرفة الإفاقة هو أصدق تصوير لحال الشعب الفلسطيني في غزة.

الانقسام الفلسطيني ما بين فتح وفصائل منظمة التحرير، وبين حماس والجهاد الإسلامي كان أكبر كارثة حلت بالمشروع الوطني الفلسطيني.

النظرة بين طرفي الانقسام هي تخوينية، كل طرف يخوّن الاخر، ويرفض الجلوس معه.

عندما وقّعت المنظمة اتفاقية أوسلو وعادت إلى الأراضي الفلسطينية في الضفة والقطاع، اعتبرت حماس فعلها تفريطا بالحقوق الفلسطينية، وخيانة للقضية. بالمقابل فإن السلطة الوطنية الفلسطينية اعتبرت حماس غير مؤهلة لتمثيل الشعب الفلسطيني، ولا تستحق حتى دخول المنظمة.

تطور الأمر بعد ذلك، ففتح وافقت على دخول حماس، ولكن حماس طالبت بحصة كبيرة في المنظمة، وهو أمر لم توافق عليه فتح.

بعد فترة استقرار ورفاه نسبية مع عودة ياسر عرفات وكوارد المنظمة إلى أراضي السلطة الوليدة في الضفة وغزة، أخذ المجتمع الإسرائيلي يتحرك نحو اليمين، مما قلص هامش المناورة أمام عرفات.

بعد رحيل ياسر عرفات، ومن ثمن انسحاب إسرائيل من غزة في 2005، اجريت انتخابات تشريعية، والتي شاركت فيها حماس بقوة -رغم أنها من افرازات أوسلو- لتحملها إلى السلطة في عام 2006، وهنا كانت إشكالية الجمع بين السلطة والمقاومة. وفي عام 2007 سيطرت حماس عسكريا على قطاع غزة، في خطوة اعتبرتها السلطة الفلسطينية انقلابا على الشرعية.

بعد ذلك تكرس هناك كيانان، السلطة في رام الله التي تتبع أبو مازن، والكيان في غزة الذي تحكمه حماس.

هذا الانقسام شكل هدية على طبق من ذهب لليمين الإسرائيلي، وعلى رأسه نتنياهو، والذي كان خطابه يؤكد أنه قبل أن تطلبوا مني التفاوض مع الفلسطينيين، خبروني مع من أتفاوض ومن يمثلهم.

جاءت عملية طوفان الأقصى في ظل حصار إسرائيلي على القطاع، وظروف معيشية خانقة. وأيضا في ظل اهمال إسرائيلي وأميركي للسلطة الفلسطينية.

مع ان طوفان الأقصى كان يفترض أن تكون رافعة لفك الحصار وتحقيق مكاسب سياسية، إلا أنه تحول إلى مأساة فلسطينية.

كان هناك خطب ما منذ البداية، وهو امر اعترف به الراحل صالح العاروري شخصيا، عندما أقر ان هناك انتهاكات ارتكبت بحق المدنيين الاسرائيليين خلال العملية، ملقيا باللوم فيها على مدنيين فلسطينيين لا ينتمون للمقاومة، دخلوا لاحقا وارتكبوها. الكثيرون اعتبروا أن تصريحات العاروري تنم عن ضعف في التخطيط، فكيف لحماس التي خططت لهذه العملية مدة 3 سنوات، عدم اخذ احتمالية دخول مدنيين مع مقاتليها! وكيف لم تمنع ذلك!. كما أن تصريحات العاروري استخدمها الاحتلال لاحقا لتبرير قتل المدنيين في غزة، مؤكدة ان لا مدنيا بريئا، والجميع منخرطون في القتال.

بالمقابل فإن السلطة الوطنية أخطأت أيضا، فهي لم تقدم أي تنازل لحماس في ظل الحرب الحالية، ولم تساعدها على تحويل مكاسبها العسكرية -في بداية الحرب على الأقل- إلى سياسية لرفع الحصار عن غزة. وقد شكّل أبو مازن حكومة جديدة في مارس الماضي دون العودة لحماس وفصائل غزة، في خطوة اعتبرتها الأخيرة استمرارا في نهج الاستفراد.

الاحتلال الإسرائيلي هو أصل كل الشرور والمآسي والعذابات التي يعيشها الفلسطينيون في الضفة وغزة و48، ولكن الانقسام الفلسطيني ساعد هذا الشر على الفتك بالشعب الفلسطيني.

هل ما حدث في غزة كان يمكن تلافيه؟ لا أعلم، ولكن حماس كان يمكن احتوائها والاستفادة من قدراتها لو تعاملت معها السلطة وضمتها تحت جناحها.

ربما كان يمكن للسلطة أن تحتوي حماس، وربما كان لحماس أن تتعلم من فتح، فما بدأت فيه حماس في التسعينات سبقتها له فتح منذ 30 عاما، لا داعي لاجترار نفس التجارب بنفس الأخطاء وإعادة اختراع العجلة. ولكن حماس لم تقبل ذلك، وتبّنت خطاب أن المقاومة بدأت معها.

الضحية في كل ذلك هو الشعب لفلسطيني، والذي يعبر عنه في قصة الكيتامين الرجل الثالث الذي كان جالسا في المنتصف يشكو اخوته الذين القوا به في الشارع للجوع والفقر، في لوحة سريالية مذهلة. الشعب الفلسطيني هو ضحية الخلافات بين حماس وفتح، ومن يدفع الثمن.

الكيتامين يكشف الاسرار التي تخبيها الصدور، وما يكشفه أن هناك عداء صارخا بين فتح وحماس، لم يزحه قيد أنملة وحشية العدوان الاسرائيلي. وهذا يعني أن هناك حربا أهلية تطبخ، وما أن ينتهي العدوان الإسرائيلي حتى نرى الأشقاء يقتلون بعضهم في غزة.

هل احتاجت غزة إلى الكيتامين حتى نكتشف فظاعة الانقسام؟ وهل يكفي حماس وفتح حوالي 40 ألف شهيد، والاف المفقودين، وأكثر من 87 الف جريح، وتهجير 2 مليون غزي، وتدمير 80% من القطاع، حتى يجلسا سوية وينهيا الانقسام؟ يبدو أن الجواب هو لا، ولذلك فإن نتنياهو سيستمر في مخططه بجعل غزة أرضا غير قابلة للعيش، لتهجير سكانها.

وعندها لن يبقى للفرقاء الفلسطينيين سوى الأطلال للجلوس عليها، ومواصلة النزاع! ــ الراي

مواضيع قد تهمك