الأخبار

محمد نعيم فرحان : مفارقات حرب: عن غير القادرين على الانتصار ولا على الهزيمة

محمد نعيم فرحان : مفارقات حرب: عن غير القادرين على الانتصار ولا على الهزيمة
أخبارنا :  

لا يمكن فهم ما يجري في غزة، إلا في سياق الحرب العدوانية الطويلة التي قامت بها الحركة الصهيونية وحلفائها الغربيين على الفلسطينيين وشعوب المنطقة التي أنتجت إسرائيل من جهة، والمقاومات المتطاولة ضد هذا العدوان التي بلورتها القوى الحية في المنطقة ومن ناصروها أينما كان من جهة أخرى.

قراءة الحرب الدائرة في سياقها وامتداداتها ومفاعيلها، وما يترتب عنها اليوم وغدا، تحيل إلى استنتاج أساسي يقول: بأن إسرائيل ومعها حلفاؤها صارت غير قادرة على الانتصار، فيما الفلسطينيون ومقاومتهم وحلفاؤهم غير قادرين على الهزيمة.

بالقياس لتعقيدات الصراع والجبهات التي يجري فيها وطبيعة أطرافه وقدراتهم وآفاقها، فإن عجز إسرائيل ومن معها عن تحقيق الانتصار يعني هزيمة مقنعة لها، بينما عدم قدره الفلسطينيين وحلفائهم على الهزيمة، نتيجة تلامس حالة الفوز المكلف الذي يترتب عنها تبلور نقطة تحول جوهرية في مسار الصراع ومستقبله.

كسر هذه المعادلة يتطلب حصول متغير جوهري لصالح أحد الطرفين، ومن سوء طالع إسرائيل أنها ليست مرشحه كي يحصل المتغير لها بما يساعدها على تحقيق النصر، لأنها استخدمت أقصى ما لديها من قوة واستنفرت الطاقة القصوى لحلفائها الظاهرين والمستترين ، لكن الواقع الموضوعي يشير، لوجود مثل هذه الإمكانية عند الفلسطينيين- إلا إذا حصل خلل ما في مكان ما- من خلال انخراط و تصاعد وتوسع دور جبهات الإسناد، مضافا إليها مفاعيل حركة التضامن مع حقوقهم من ساحات متوقعة وأخرى لم يكن منتظر منها ذلك، وقد باتت تداعيات الحرب في غزة تلقي بظلالها الإنسانية والأخلاقية والفكرية والسياسية والإستراتيجية على مسرح عالم واسع.

طرفا الحرب الدائرة في غزة وحلفاؤهم يخوضون معركتهم بروح من يقف على خط البقاء والدفاع الأخير، هناك حيث تضيق هوامش المناورة والتمويه في المواقف إلى حد التلاشي، ويظهر كل طرف على طبيعته الحقيقية الفعلية. لذلك فإنهما يمضيان نحو استكمال المعركة إلى أبعد مدى ممكن، حتى يتأكد كل طرف بالملموس من النتيجة التي يقف إزائها، ومهما كانت نهاية هذه الجولة من الحرب فإن أكثر شيء حقيقي تؤسس له، هو، حوافز ودواعي تعبوية هائلة لحرب قادمة أخرى.

المعركة التي تجري على خط البقاء الأخير، تكشف عن المعضلة الوجودية التي تعيش إسرائيل في كنفها، لأن انكسارها فيها سيكون الأخير، وهو ما حذرها منه «يهوشعفاط هركابي» قبل أربعين عاما خلت، كي لا ترتكب الأخطاء المؤدية إليه.

أما بالنسبة للفلسطينيين فيبدو الأمر مختلفا لأنهم موضوعيا يستندون لخط بقاء له أبعاد بنيوية وتاريخية ووجودية وحقوقية وأخلاقية وحتى غيبية عميقة ومختلفة، وله طبقات كثيرة وامتدادات شاسعة في أمتين وعالم، ولا إمكانية: لا لسقوطه، ولا لاستنفاده، وهذا ما ساعدهم على استيعاب الانكسارات التي حلت بهم على مدار الصراع منذ قرن وأزيد كانوا فيه الضحايا الدائمين، والعودة من ركامها بالذات إلى المقاومة من جديد.

في قراءة احتمالات المشهد القائم حاليا، لنذهب إلى الحد الأقصى من التوقعات ونفترض، بأن إسرائيل قد استطاعت تحقيق كل أهدافها كما تشتهي في حرب غزة وليس كما تستطيع وحسب، فهل ستعود بعد انجاز المهمة إلى الراحة والطمأنينة والأمن؟ الجواب ببساطه: لا، لأن حربها السابقة هي التي ولدت المقاومة الراهنة، وحربها الراهنة هي التي ستولد المقاومة العاتية القادمة الصاعدة من المقابر التي خلفتها ونفوس الناس ومن بين الركام. وهذا الاستنتاج ليس تمرينا ذهنيا في المنطق يجري في هواء الأوهام الطلق، إنه ببساطة ما حصل في تاريخ لم يرويه لنا أحد لأننا نعاينه ونراه، ويتشكل على أعين الجميع، وبقيت المشكلة تقيم في مكان أخر، في عمى البصيرة والبصر وانعدام الأحقية والأخلاقية والضلال ووهم السيف، والتعثر في قراءة فقه التاريخ المسطور، بعين لا نمش فيها ولا حوّل، والبحث فيه عن حلول من نوع أخر.

من يعود من الحرب بصفتها أعنف الطرق لتحقيق الأهداف، بدون أن يحقق السلام والأمن له ولمن حاربهم كي لا يذهب نحو حرب أخرى، وبدون تسوية مقبولة (لهم وله)، ويجد نفسه في دوامة لا يستريح فيها السلاح، ويعتقد بعلو كعب القوة على الحق، يكون في الجانب المظلم والغبي من الزمن ويسقط في كمين التاريخ المروع.

شيء من هذا القبيل يرتسم بقسوة في الشرق الأوسط يضع الجميع أمام تحديات لحظة مصيرية تقع على خطوط طول وعرض معركة البقاء الأخير. ــ الدستور

مواضيع قد تهمك