الأخبار

بشار جرار : ما يظهره المتظاهرون!

بشار جرار : ما يظهره المتظاهرون!
أخبارنا :  

ثمة أشكال وألوان من وسائل التعبير تأييدا أو احتجاجا. تعرف جميعها بالفعاليات ومنها المسيرات والاعتصامات والمظاهرات.

أحصر مقالي في هذا المقام بمظاهرات بلاد العام سام وما تظهره حتى الآن سيما في الأيام القليلة الماضية.

حقيقة ما تظهره التظاهرات الداعية إلى وقف إطلاق النار في حرب السابع من أكتوبر لم تعد مقصورة على سياسة خارجية بل داخلية أيضا في موسم انتخابي غير مسبوق في معاركه القضائية-السياسية. المدقق في تفاصيل الفعاليات لا يخفى عليه أن الأمر لا يقتصر على الغزيين والإسرائيليين ولا على الفلسطينيين واليهود والمسلمين، بل يصب في صراع حسم وحرب وجود بين تيارين رئيسيين: العولمة والمحلية من جهة -محلية على أي أسس كانت وطنية، قومية، دينية أو سياسية- ومن جهة أخرى، بين كل ما هو وطني أو محافظ مع اليسار المتطرف بالمقاييس الغربية، والمرتبط عضويا ووظيفيا بالعولمة.

في التسويق ثمة ترويج خاص لمبيعات الجملة وأخرى للمفرّق، والشراء الاستهلاكي الارتباطي أو شراء حزم «بَندِل» من السلع والخدمات معا، سعيا لأسعار أو معاملة تفضيلية للمستهلك. هو نمط من أنماط التداعي الحر في ذهن المستهلك الخاضع لعمليات تأثير وتلاعب معقدة، يخطط لها دهاقنة الترويج والتأثير عبر سيل مركّز هائل وجارف من الدعاية والإعلان.

ولأنها صارت صناعة ومصدر استرزاق، قامت شركات تطلق على نفسها أحيانا اسم منظمات أهلية أو غير حكومية، تستثمر رأسمالها من هبات وقروض وتبرعات واشتراكات واقتطاعات، تستثمرها جميعا في مجموعة ليست متجانسة بالضرورة وفي بعض الأحيان متناقضة، لجمع أكبر قدر ممكن من المال، والأخطر من المتطوعين «الناشطين» من ذوي الهمم، وهم في غالبيتهم من الصادقين في مشاعرهم ومواقفهم إزاء مناصرة قضايا محددة أو شعوب أو أقليات معينة.

على سبيل المثال، كثير من مظاهرات الدعم للأكراد (الكورد أو الكرد) تدعمها أقليات إثنية أخرى في ألمانيا وفرنسا وبلجيكا وبريطانيا وأمريكا، أقليات من المهاجرين أو المواطنين من مزدوجي الجنسية كالمنحدرين من أصول آشورية، سريانية، أرمينية أو أمازيغية. هذا أمر منطقي وجدير بالتعاطف ويخدم قضايا الجميع ويعزز من مصداقية مؤازريهم.

في المقابل شهد الغرب، خاصة أمريكا وكندا، فعاليات سياسية تدعو إلى إنهاء حرب غزة وتسوية القضية الفلسطينية على نحو جوهري وسلمي شامل وعادل، ضمّت في صفوفها ووسائل التعبير فيها ما يتناقض مع الأسس التي يقوم عليها التضامن مع «طوفان الأقصى» أو حماس أو حزب الله اللبناني أو الحوثيين والتي رفعت شعاراتهم ومنها هتافات إيرانية في جامعات أمريكية مرموقة عالميا، كجامعات ييل وهارفرد وكولومبيا. لا أريد الخوض في تفاصيل قد تؤثر على لوغرتمات منصات التواصل الاجتماعي عند مشاركة هذه المقالة، لكن بعض الأعلام واللافتات والشعارات المكتوبة والمرسومة والمسموعة عبر مكبرات، وأخيرا بعض الرقصات «التعبيرية» تؤشر إلى وجود ما هو أبعد مما تتناقله وسائل الإعلام، وللأسف غالبا ما تقع في فخه بعض القنوات العربية على اعتبار أن ما يجري تأييد غير مسبوق للفلسطينيين والعرب والمسلمين.

يقدّر الناس مثلا الدبكات الشعبية الأصيلة تعبيرا عن الهوية، لكن تأبى النفوس الحرة السوية «هز الوسط» خاصة إن تحزم المتظاهرون بعلم أو كوفية!! في ساحة جامعة كولومبيا بمدينة نيويورك حيث إحدى أعرق كليات الصحافة والإعلام وكليا ت تفادي وحل النزاعات ودراسات السلام، بلغ الأمر ما هو «أدنى من هز الوسط» فيما حرص المشاركون بالرقصة «التعبيرية» على ارتداء كمامات تقيهم من كوفيد التاسع عشر!

وفيما أخط هذه السطور من مدينة دالاس التي شهدت فيها صدفة وعن بعد فعالية أحد جسور المشاة فوق طريق رئيسي سريع في ولاية تكساس، قام متظاهرون بتثبيت أعلام فلسطينية، أمضيت أمسية أسرية في إحدى الساحات العامة المخصصة للتنزه. هناك وسط ناطحات سحاب حيث مقرات كبرى الشركات العالمية في قطاعات حساسة كالاتصالات والاستشارات والبرمجيات ومقر رئيسي للاحتياطي الفدرالي (ما يعادل البنك المركزي)، اختار منظمو فعالية باسم نصرة غزة، إقحام الدين أولا ومن ثم السياسة على أحد مداخل المتنزه، إلى جانب نافورة موسيقية يلهو فيها الأطفال الصغار في أعمار الحضانة والمرحلة الابتدائية. من الشعارات المرفوعة وإلى جانبها سجادة تساؤل استفزازي غير مبرر يضرب حوار الأديان في مقتل، ويهز أركان العيش المشترك والتعايش والوئام، بما ينعش نظرية صراع الحضارات ويغذي الإسلاموفوبيا ومعاداة السامية.

اللافت أن منفذيْ تلك الفعالية -التي أثارت الاستهجان وربما الاستعداء أكثر من التعاطف- كانا شخصين في مقتبل العمر، كلاهما من المهاجرين الجدد على الأرجح، وكلاهما من دول لا تتحدث العربية، أظنها من بلاد «طالبان»!

أمد الله في عمر الفنان السوري الأصيل، دريد لحام، صدق في مسرحيته «كاسك يا وطن» عندما تحدث بحرقة -وهو يبيع من الفقر فلذات كبده- عمّن يسيئون باسم القضية إلى القضية.. ــ الدستور

مواضيع قد تهمك