الأخبار

علي البلاونة : غزة والطوفان الإعلامي

علي البلاونة : غزة والطوفان الإعلامي
أخبارنا :  

خلال الأشهر الستة الأخيرة لطوفان الأقصى، أشرفنا على دراسة تحليلية تم فيها رصد التفاعلات اليومية في مختلف وسائل الإعلام والاتصال الأجنبية، هذا الرصد تم فرزه وتصنيفه، وفقا لمعيرة تصنيفة وتحليلية، لاستخلاص مؤشرات وفقا لفرضيات محددة، ولمعرفة اتجاهات الرأي العام، وذلك لمعرفة القوى الخلفية المساندة والمغذية، والتي ساهمت في دعم عمليات خوارزمية معينة، يظن ويعتقد البعض أنها نتيجة لجهده وفاعليته، ولكنها سرا هي إحدى أصول العمل الاستخباراتي حيث تم جعل هذه القضية أولوية بهدف تشكيل العقل الغربي، ولجعل هذا الحدث ضمن أولوياته وإهتماماته، والسيطرة على التريند، وفرضها على أجندة صانع القرار فرضا.

ففي الأيام الأولى للحرب وتحديدا من 7/10 الى 7/11، كانت هناك ذروة عالية في النشر، تصل حد الإغراق، ولذلك أسبابه، ومن بين تلك الأسباب أن هناك جيوشا إلكترونية رسمية وقوى مساندة، تهدف إعادة صورة القضية والمأساة الفلسطينية للواجهة وجعلها أولوية على أجندة السياسة الدولية، لغايات عديدة، نتوافق معها في الرسالة ونختلف معها بالأهداف، لأن التركيز على قضية من وجهة نظرهم يضعف أخرى حتما، فغزة طغت على أوكرانيا، والهجوم الإيراني طغى على غزة، وفي الماضي تم توريط الاتحاد السوفيتي في أفغانستان، وتورط الأميركان كذلك في أفغانستان وخرجوا أذلاء كما تشير صحافتهم، وإذا تم توريط روسيا في أوكرانيا، فقد تم توريط أميركا مجددا بمشكلات المنطقة، وهي تخطط للإنسحاب.

هذه القوى الخفية تهدف للضغط على صناع القرار الدولي، بوضع قضية فلسطين كأولوية عالمية، وباعتبارها مسألة أخلاقية تفترض الحل، وهدف هذه القوى إظهار ازدواجية السياسة الأميركية في التعامل مع القضايا حتى العادلة منها، ولعبت هذه القوى لعبتها الإعلامية في إثارة الرأي العام، لكسب تعاطف الجمهور والحشود، كانت الصورة أبلغ من الكلمات، لا بل على العكس من ذلك، كانت صور الأطفال والنساء وكبار السن، والطواقم الطبية تحظى بالحضور والوصول والتأثير، هذا العمل الجبار ساهم في إحداث تحولات وانقسامات في بيئة الرأي العام وتحديدا الأميركي، وإحراج الإدارة الأميركية، ولأن الدعاية المؤثرة والتي تصل بسرعة هي الدعاية غير المباشرة وغير الرسمية أو المؤدلجة، وظفت هذه القوى الجانب الإنساني، فكانت كلمات لطفل في غزة تحدث تأثيرا عميقا في الرأي العام، أكثر من تصريح لمسؤول كبير في حماس مثلا.

ولأن حماس لا تملك قدرة التخطيط للانتصار في المعركة الإعلامية، وحدها، فقد قام نيابة عنها مجموعة كبيرة من المتطوعين على الصعيد الدولي، حيث شاركت الجاليات الفلسطينية والعربية والإسلامية والقوى المدنية العالمية، في رفع مستوى الأداء الإعلامي، وأن السبب الرئيس وراء نجاحهم ليس صدقية تعاطفهم فقط، وإنما ساهم في رفع حجم البثوث والصور ومواقف ومعلومات مختارة وكالات الاستخبارات دولية، جعلت القضية وغزة وحماس والشرق الأوسط في صدارة المشهد، لكنها دعاية إتسمت بعدة عناصر أساسية ساهمت في تحقيق النجاح، الأول هو جعل الصورة الحية ناطقة وتتحدث، والثاني نقل الصورة وتدعيمها بالمعلومة المصاغة بعوامل مؤثرة، والثالثة والأهم هو توظيف الاتصال الجماهيري Mass communication والإنساني مع المجتمعات الأخرى وهو الذي كسر الحواجز، وأزال الستار عن السردية الإسرائيلية المقدسة المتجذرة والمحمية بأجندات عديدة.

كما لعبت الدبلوماسية العامة في أماكن محددة دورا هاما ولهذا فهي «أهم من أن تترك للدبلوماسيين» لأن الدبلوماسية الحقيقية بإعتقادي ليست التمثيل الرسمي للدولة على أهميته، بل هي القدرة على الإتصال الفعال والمؤثر خارج أسوار السفارات والبعثات الدبلوماسية، ( نموذج السفير الفلسطيني في بريطانيا حسام زملط إبن رفح، وباسم يوسف وفهم العقل الغربي) فهي القدرة على التفاعل والتواصل والإشتباك مع القوى الحية ومع النخب والمجتمع المدني وقادة الفكر والرأي، ورجال المال والاعمال والإعلام، لممارسة القوة الناعمة المؤثرة.

ان فهم الآخر ومعرفة كيفية مخاطبته والتأثير عليه، علم تراكمي قائم بذاته، الى جانب التخطيط الإتصالي والإستراتيجي، لأنه يخلق مع الوقت قيمة نوعية مؤثرة، وعليه فأن التسلح الإحصائي والرقمي والمعرفي مهم في لغة التخاطب مع العقل الغربي، ومهم في الأزمات، فقد كانت إحصاءات وزارة الصحة في غزة، دقيقة وشفافة جعلت جهات دولية تعتد بها وأصبحت مصدر ثقة، ولهذا أحدثت تأثيرا حتى على القرار السياسي الغربي.

كما أن استطلاعات الرأي العام Opinion poll الوازنة والتي تمتلك تراكمية في الأصول «المعرفة والسمعة»، خلقت جدارا مهنيا لهذه الجهات جعلها أكثر إستقلالية ومصداقية، وتهاب الرأي العام، وعليه كشفت في جوانب من أعمالها عن القضايا الإيجابية والسلبية لتأثيرات أزمة غزة على الرأي العام العالمي، ومن الجوانب الإيجابية التي كشفت عنها هذه الجهات، الإنسجام والتزامن والتوافق بين سياسات الدولة الأردنية وتوجهات الرأي العام الأردني فيما يتعلق بالموقف الداعم للقضية الفلسطينية، وأن هذا الموقف بدأ يتغير من الناحية الرسمية، إستجابة لتغير طرأ على موقف وتوجهات قطاع من الرأي العام، عندما إنحرفت بوصلته من غزة وأصبحت جزءا من مخططات إقليمية للتأثير في أمن واستقرار الأردن.

أما حكاية الرأي العام معنا، فهي في الفقه السياسي الإحترافي أقرب الى المسخرة، لأن الدول، والتنظيمات، والشركات الكبرى لا ترهن منتجها وقرارها لمزاج الجمهور الانفعالي وتحولاته السلوكية، ولأن من طبيعة الجمهور أنه يتحمل في ظرفية معينة، ويرفض ما تحمله ودافع عنه في ظرفية أخرى، وعليه لا يعول على الرأي العام في القرار السياسي، خاصة إذا طالت الأزمة وتكشفت أوراق اللعبة، كما أن الرأي العام على أهميته لا يملك أحيانا القدرة في تعديل القرار السياسي الدولي، ورغم ذلك، فإن ماكينة الدعاية الإعلامية للدول تمتلك القدرة للقيام بعمليات غسل Brainwashing بحيث يمكن التخلص من مؤثرات أي أزمة أو قضية، وعليه فان قضية الرأي العام معنا لا تسمن ولا تغني من جوع، فمن معك دائما هم الأقربون لك الذين يعملون بعيدا عن المصالح ولعب الأوراق المتقاطعة. ــ الدستور

مواضيع قد تهمك