الأخبار

عبد الهادي راجي المجالي : المستقر الأخير

عبد الهادي راجي المجالي  : المستقر الأخير
أخبارنا :  

أجمل شيء في العمر أن تختار غزة مستقرا أخيرا لك في الموت..

كل القبور هناك للشهداء, كلها للذين استشهدوا بفعل القصف.. والذين استشهدوا بفعل القتال العنيف, هل يوجد في الدنيا مجد مثل هذا المجد؟.. أن تدفن في مقبرة وبجانبك يرقد (حسن) الذي ارتقى شهيدا وهي يسدد القذيفة.. ومن شمالك جميل الذي ارتقى وهو يلملم أشلاء أولاده... وعلى مقربة منك قبر شهيد ولكنه مجهول الهوية.. وقد قيل أنه استشهد حين نفذت الذخيرة منه... حتما سيشفعون لك, وغزة ستشفع..

هؤلاء ليسوا أمواتا بل هم أحياء عند ربهم يرزقون, وذات يوم ستصعد يد من كل قبر وتعاقب كل من سدد النار باتجاه الأطفال, كل من هدم البيوت.. ستعاقب كل من شردهم ومن نكل بهم, ومن جعل السماء لديهم قذائف ونار.

تلك المقابر وبعد انتهاء الحرب سيبنى كل شيء, وسيزال كل ردم... لكنها لا تحتاج لا للأسوار ولا للرخام, الله وحده سيجعل الورد والعشب ينبت فيها.. الله وحده من سيرسل (الحساسين) كي تعطر صباحهم بالزقزقات, الله وحده من سينصفهم في عليين ويجعلهم أكرم وأنبل البشر... والتاريخ سيكتب عنهم... سيقول أن أهل هذه المقابر نسفوا نظرية هنتنغتون في صراع الحضارات... أصلا هل يوجد لدى اليهود حضارة؟ هذا الصراع كان بين الإيمان والكفر.. بين الصبر والغطرسة, بين الحرية والكرامة من جهة وبين العبودية من جهة أخرى...

أصلا كل قبر في غزة هو بحد ذاته يؤسس لنظرية... ذاك قبر طفلة تدعى ليلى, استشهدت وهي على صدر أمها ترضع من حليب طاهر ندي... استشهدت ولم تشبع بعد.. وليلى نظرية في تعرية هذا العالم الحاقد, وهناك قبر علي.. كان فتى مثل الورد لا بل أشهى من الريحان كان يريد أن ينتشل شقيقته الصغرى من بين الركام, ولكنهم للأسف قاموا بنسف المنزل قبل أن يكمل... فاحتضنها وارتقى معها مبتسما ومودعا هذا العالم.

كل قبر في غزة.. يؤسس لنظرية ورواية وقصة, هناك في الزاوية اليمنى من المقبرة تستقر أمينة, كانت في السنة الجامعية الثالثة وتدرس الهندسة.. ويقال أنها كانت متفوقة, استشهدت مع بداية الإجتياح.. ببساطة متناهية رفضت أن تستمع لهم وأن تغادر المنزل الذي ولدت فيها ورسمت مخططاتها المعمارية على طاولة صغيرة بجانب الشباك.. المنزل الذي زرعت كل زواية فيه بالورد.. رفضت أن تغادره, واعتبروا عيونها قذائف.. وظنوا أن أظافرها مجرد صواريخ موجهة.. تعاملوا مع خصلات شعرها على أنها مسيرات.. واغتالوها مع أول خيوط الفجر... أمينة هي أعظم من كل ما كتب شكسبير.. أعظم من دراسات الجندر الكاذبة التي تنتجها هارفرد.. أعظم من كل مسرحيات العشق التي عرضت في مسارح إيطاليا.. أمينة كانت نظرية الحب التي لا تقبل النقد، كانت نظرية في الصبر أيضا لا تقبل الشك.. وفوق كل ذلك كانت هزيمة لقاتلها, وكانت نصرا للكحل والعيون السود وفلسطين..

أشرف شيء في الدنيا أن تختار من غزة مستقرا أخيرا لك بعد الموت... وأطهر شيء في العمر أن تدفن عند أقدام شهيد لم يتجاوز العاشرة من العمر بعد... وإذا عرفك الناس وقالوا أنك الغريب الوحيد في هذه المقبرة... فاكتب على شاهد القبر..أنك جئت إلى هنا... وأنت تعرف أن التراب في غزة ليس مثل كل التراب في العالم بل هو حنون.. وطيب وسيشفع لك عند الخالق... قل لهم أن التراب في غزة.. هو أشرف تراب في الأرض. ـ الراي

Abdelhadi18@yahoo.com

مواضيع قد تهمك