الأخبار

عامر طهبوب : شاغل الكرسي (2-3)

عامر طهبوب : شاغل الكرسي (23)
أخبارنا :  

انجذب صاحب هذه السيرة منذ صغره إلى السرد والقراءة، يتحلق حول العمة «أم ناصر» عندما تزورهم، لتروي على مسامعهم قصة زرقاء اليمامة، يتخيل عينيها، قوامها، وجهها، وشعرها، ويفحش في الخيال. مَرِضَت والدته، فاصطحبها زوجها إلى عمان، استلقت على سرير الشفاء في مستشفى لوزميلا أسابيع، طلب والده من ابن خالهم جريس، وشقيقته «مرثا»، أن ينتقلا للإقامة في البيت للعناية بالأولاد، وكان جريس كجدته مولعاً بالسرد، ونبيل متعطش له، فسمع لأول مرة قصة الزير سالم، وسمع شعراً:

أيا جليلة أيا بنت عمي أيا صاحبة الوجه المليح

رأيت اليوم من سالم فعالاً يشيب لهولها الطفل الطريح

كان هذان البيتان أول مؤشر لانبعاث الفكر النقدي في عقله، قال لجريس: مفردة الطريح تتنافر مع مفردة المليح في البيت الأول، وكيف يشيب الطفل الطريح وهو ينزل ميتاً من بطن أمه؟

أكبر أمنية في صغره كانت رغبته باقتناء قصة الزير سالم المعلقة على حبال باعة الكتب على الجدار الشمالي لمحلات شارع البارحة، ولكن ثمن الكتاب باهظ؛ من أين يأتي بالبريزة، وصدف أن عاد شقيقه فؤاد من العقبة، وكان يعمل هناك، فنَفح كل واحد من إخوته «بريزة»، عشرة قروش تبرق بلونها الفضي، حملها نبيل، وسابق الريح إلى شارع الهاشمي، ابتاع قصة الزير سالم، وأخذ يتفحص الغلاف، هل هذه صورة «جسّاس» وقد انطرح تحت الحصان المعلق في الهواء، لعله يشير إلى كليب، بدأ القراءة وهو في الطريق إلى البيت، جلس على صخرة على حافة شارع فلسطين، وأخذ يقرأ بصوت عال، لمحه من بعيد شقيقه أديب، اقترب منه، أخذ منه الكتاب، ومزقه تمزيقا، وبرّر فعلته أمام والدهما بأنه حريص على نتائج شقيقه الدراسية، إلا أنه راجع نفسه بعد يومين، أعطى نبيل «بريزة»، وطلب إليه أن يذهب ليجلب نسخة ثانية من الكتاب.

يمتلك صاحبي ذاكرة تشبه نصل سكين «شيف»، يذكُر يوم تحلّقت الأسرة في شباط من عام 1953 حول «الطبلية» لتناول الطعام: «ششبرك»، والراديو الكبير يصدح وسط الصالة، هز الوالد رأسه حزيناً: «مات ستالين»، قال: ساتالين. توقف نبيل عند تلك الحادثة، ظلت عالقة في ذهنه حتى عندما كبر، وأذكر في السياق أنني رغبت بشراء مجسم لستالين في العاصمة تبليسي عام 2018 بعد أن زرت في مدينة «غوري»، البيت الذي ولد فيه، قالت لي صاحبة المتجر: لماذا تشتري مجسم ستالين، نحن لا نحبّه؟ قلت: وأنا أيضاً لا أحبه، أنت لا تحبينه وتبيعينه، وأنا لا أحبه وأشتريه.

توقفت ذاكرة الرجل عند حوادث بعينها، يستلقي في غرفة معبأة بالغلال على خيش التبن، وهناك عثر لأول مرة في حياته على كتاب أحمر نُشِرت على صفحاته صورة ستالين، لكنه لم يتأثر بالفكر الماركسي أو الستاليني على الإطلاق. تعلق بمعلمته «فيديل»، يستمع إليها وهي تحدثهم عن سِفر التكوين، لكن أكثر ما علِق في ذاكرته، كانت قصة طوفان نوح، أخذ يتخيل شكل السفينة، والحمامة التي تحمل في منقارها غصن زيتون مبشِّرة بانتهاء محنة الحياة، كل شيء كان يثير فيه الخيال والتخيل، ويطلق لعقله التفكير والتفكُّر.

درس الابتدائية في مدرسة «أبي عبيدة»، المجاورة لبيت حسن أبو غنيمة، وبيت الشبار بحجارته الأسطوانية الوردية، المدرسة التي كان يديرها يحيى الشرايري، ومن بعده قاسم الغزاوي، وكان خلال طفولته، أو صباه المبكر إن شئتم، دائم الرقابة، يراقب كل شيء، كل عبارة، كل حدث، كل شخص، وإلا كيف استطاع أن يُخزِّن في ذاكرته شخوصاً لا تعد ولا تحصى، كأحمد المنديل الذي كان مسؤولاً عن ضرب مدفع رمضان، يرافقه إلى ظهر التل موعد ضرب المدفع، - وإلا كيف يكون رقيباً - ونبيهة بائعة الطائرات المروحية والملبّس، شهِد وفاتها، وعاش في ذاكرته «زُردم» بائع السحلب، وكريّم الملقب بالخنقة، والذي مات مخنوقاً من دخان مدفأة حطب، يراقب حتى قائد مخفر البارحة «أبو شوكت»، وشِجار ولده مع خضر «أبو البسْاس»، يبدو أن لكل لقبه في ذلك الزمان، كان خضر يقتل «البِسَس». يحفظ نبيل في ذاكرته كل شيء، حتى أسماء سيدات الحارة: ظريفة «أم حامد»، التي ترسم الحناء على أيادي العرائس، و»كاملة» أم حسان، التي تجمع النساء كل صباح في حاكورتها تحت شجرة التوت، إلى رشدية «الدُّندي»، العجوز الساخطة على كل شيء، تنادي شقيقها رشدي، « يا دُندي».

لم يُسقِط من ذاكرة صباه، بائع الزيت، وبائع الكاسات والفناجين، وبائع الملبن ينادي بأعلى صوته: «آه يا ملبن»، وبائع التين بقنبازه الأزرق وطاقيته البيضاء، ينادي: «يا الله ع التين، هاي التين»، وبائع البوظة صاحب الصوت الشجي: «أنا بياع الكولجيتا، حليب ولمون وشوكوليتة»، وهكذا بائع الترمس قبل أن يأتي إلى المدينة حمدان «أبو الذبّان: بائع الحلاوة، والبليلة، والفول النابت المزين بأوراق البقدونس، ولم يُسقِط من الذاكرة، «عبودة» بائع الساندويتشات، ولا مصلِّح الساعات الشيخ سليمان على مدخل سوق الفرواتية، حيث خان أبو صياح المؤدي إلى سوق الفحم وسوق الصاغة، ولم ينس أشهر مجانين إربد «، أبو الترك»، يرتدي الزي العسكري القديم، ويلقي بالتحية على أسعد شرار، تاجر الأسلحة النارية.

لا يمكن إلا لعاشق، أن يحفظ أسماء شخوص المدينة، وقف على باب «المِيكانِست»، بابور الطحين، واقترب من حياة العم رويزق الحمّال، ومن حِمار رويزق الأشهب، وهرايس خيرو، وشقيقه أبو رسول، ومن ساحة الأفراح، ومقهى المنشية، ووقف على بيت صالح المصطفى والد عرار، وبيوتات إربد المعروفة في ذلك الزمان؛ بيت علي خلقي باشا، وبيت أبو حسن النابلسي، والصباغ، وجودة، وغيرها كثير، ووقف يرقب الشيخ خليل مؤذن الجامع الكبير، وعلى مقربة من «كُلّك» المكوجي في حارة العبندات، والفلكي بائع الفلافل، و»حَكحَك» دائم الهرش في جسده، وياسين الفوال، و»أبو عرّاج» اللحام في ساحة الجامع، وأبو السعيد الزعبلاوي، حيث يستأجر دراجة يتجول فيها في أنحاء المدينة.

هذه بعض ملامح إربد عاصمة الثقافة العربية اليوم، في ذاكرة شاغل كرسي عرار، ما زال بعضها قائماً حتى الآن، وبعضها رحل أو اختفى عن المشهد، مشهد كانت تلتقطه عدسات المصورين من أمثال ألبير، صاحب استوديو رمسيس، واستوديو «ميشيل» الذي أداره حنا السايس، و»أوغاريت» الذي أداره ميشيل السايس، واستوديو بيروتي، وألما، والعمري، وغيرها، وهذا هو الماضي الذي يحن إليه نبيل وجيله، فلافل طلفاح، ومطعم «أبو ظهير» المسمى «قلينا»، حيث المعاليق والكلاوي والطحالات، وبيض الغنم، والعناقيد، أو «الحلويات»، أو «الحلوانات» كما يسميها البعض.

ومن عاش في إربد في تلك الحقبة، يتذكر الحمالين «أبو راس»، وقاسم زعبوب، وبهلول، ولا بد أن يكون قد حضر فيلماً في سينما الزهراء التي تأسست عام 1946 أو نحوه، فقد حضر فيها صديق الدكتور نبيل، عصام جوهر، حفل تأبين عرار شاعر الأردن الكبير عام 1949، وهو نفس العام الذي رحل فيه عرار رحمه الله. ــ الدستور

مواضيع قد تهمك