الأخبار

داودية : ذكريات و عظات -23-

داودية : ذكريات و عظات 23
أخبارنا :  

محمد داودية :


كان علي ان اواصل تطوير طاقتي وان اشحنها بلا توقف. كنت اقول لي، ان بوسعي أن اقوم بجهد أكبر. ان أعمل أكثر؛ أن أنجز أكثر؛ أن أحمل أكثر ؛ أن اصعد أكثر؛ أن ابذل اكثر؛ أن أعرق اكثر، ان اتعلم أكثر؛ أن اتواضع أكثر؛ أن اترفق أكثر؛ أن أبتسم أكثر وأن أحب أكثر.

لقد كنت من المتطلعين الى تغيير العالم. وجعله اكثر عدلا وأمنا وكرامة وحرية وجمالا.

كبرت قليلا، فرأيت أن أبدأ بتغيير وطني الصغير. ليصبح جديرا بابنائه وجديرا بحمل إسم الأردن العظيم، محور بلاد الشام وقلب الامة.

ولما كبرت اكثر، قررت أن أغير عالمي الصغير ! ان اتعب واجهد وابذل واعطي اكثر. فأكثر واكثر لمزيد من الإستقامة والعطاء.

ودائما كنت اسأل نفسي: ما هو واجبي تجاه هذا الأمر وذلك التحدي، وما هو دوري الوطني في المعالجة.

فدائما كنت أرى ان عليّ وعلى كل انسان واجب ودور، كما ان له حقا وكرامة.

فالطليعي الذي يستنهض المجتمع يجب اولا ان يستنهض نفسه.

كنت اعامل نفسي كإبنٍ نهم يحتاج الى التقويم والإرشاد والنصح. وان يكون مستقلا، والد نفسه وصديقها والرقيب عليها.

ما اطول الطريق الذي مشيته !

لقد ارتكبت كثيرا من الأخطاء حاولت ان اصلحها وان لا ارتكب مثلها. ولقد أثرت كثيرا من الغبار خلفي وكنت سعيدا بذلك كثيرا. وكنت شرسا لا أدانى كما كنت سلِسا سهلا يَسِرا.

ورغم انني من جماعة "ظنّ بأخيك خيرا"، الا انني اعتمدت كثيرا على الحدس والحذر وعلى إعمال اليات التقدير والتوقع، التي كثيرا ما اصابت وافرحتني.

ولم اجزع ولم اقنط. فكلما واجهت مصيبة او حاجزا او تحديا او أهوالا، اعتبرتها طبيعية جدا واعتبرتها موجودة لأتجاوزها واتخطاها.


******

"لفّيت" الأردن. عملت في عدة قرى في وسط الأردن وفي جنوبه وفي شماله، في ظروف غاية في القسوة عانى منها معلمو ومعلمات الستينيات والسبعينيات.

قرى كان فيها مدارس ومعلمون ومعلمات فقط، لم تكن فيها كهرباء ولا طرق ولا سيارات ولا بنوك ولا أي.تي.ام. ولا مخابز ولا ملاحم ولا مطاعم ولا عيادات صحية ولا مراكز طبية ولا صيدليات ولا كازيات ولا مساجد ولا مقاه ولا كوفي شوب ولا بيرغر كنج ولا بيتزا هت ولا مكدونالد ولا دور سينما ولا مسارح ولا مكتبات ولا هواتف ولا تلفزيونات ولا لاب توب ولا فيسبوك ولا واتساب.

تغلغلت عميقا في تضاريس وطني، بمتعة وفرح، عرفت كيف يعيش أهلي، فقد عملت بعيدا عنهم، حتى ان عطلتنا الأسبوعية كانت يوما واحدا فقط.

كنا نتحمم في السطل واللقن، ونغسل ملابسنا الداخلية والخارجية "على اليد" ونخيط فتق الملابس والازرار المقطوعة ونكوي ونعجن ونخبز ونطبخ منسفا او مكمورة او مقلوبة ونجلي ونحطّب ونصيد ونذبح ونسلخ ونقطع الخروف وننتف ريش الطيور والدجاج ونطبخها.

كنا نعيش في القرى التي نعلّم فيها، لم نكن زوارا عابرين. كنت ادخل في شراكة مع والد مدير المدرسة الأستاذ عواد الفنخور فنزرع ارضه قمحا وحمصا ليس بقصد الربح بل بقصد المتعة التي يحصل عليها الفلاحون وهم يراقبون السماء ينتظرون مطرها وغيثها ويراقبون الزرع ينمو الى ان يصبح قمحا نفرّكه او حمصا نشويه.

وبعد تناول وجبة الغداء وابريق الشاي واستراحة قصيرة، كنا نذهب الى الملعب الترابي، المعلمون والطلاب، نلعب كرة القدم الى ان تغيب الشمس وتصبح الرؤية متعذرة.

وفي بلدة الدجنية توليت تحطيم الصخور بـ"المهدّة" كي نمهد الملعب ما امكن. وكنا نرتب مباريات كرة قدم مع مدارس القرى المجاورة التي نذهب اليها ونعود منها سيرا على الاقدام. كنت معلم كشافة، أتحرك مساء مع طلاب مدرستي الدجنية وحمامة العموش على الطريق المتجه الى جرش نمشي على علامات الكشافة نطبقها ونهتدي بها الى نقاط التجمع في أجواء اسرية حميمة لا مثيل لنقائها وصفائها.


******

كنا في الطابور المدرسي الصباحي عندما لفت المدير عواد فنخور انتباهي الى امرأة تنطلق بسرعة من بعيد تتوجه الى المدرسة، كانت تثير خلفها غبارا.

قال لي عواد: أتعرف من هي تلك المرأة ؟

قلت لا.

قال هذه هي ام الطالب الذي عاقبته يوم امس، وهي امرأة قوية لن تتورع عن بهدلتنا ومسح الأرض بنا كلنا امام الطلاب.

قلت وانا ابلع ريقي بصعوبة: خليني اتصرف.

واضفت: لا يوجد مفر من المواجهة.

قال ممتقعا: لا.

وصلت المرأة التي تقدح عيناها شررا وتقدح قدماها حجارة صوان، واعين الطلاب العارفين تتحرك نحوها ونحونا تشفق علينا او تتشفى بنا.

قالت بلهجة من قرر الحكم: وين المعلم الطفيلي؟

توجهت نحوي قائلة: لماذا تكسر خاطر ولدي وتضربه لماذا ؟

قلت لها: حقك عليّ، هذه آخر مرة اعاقبه.

واضفت: لن اسأل ابنك بعد اليوم ان جاء الى المدرسة او ان غاب، ان انجز فروضه المدرسية او لا.

واضفت: ليس لي ولا للمعلمين الذين يسمعون صوتي اي علاقة بابنك.

اوشكت المرأة على الانهيار، امتقع لونها وقالت بلهجة منكسرة: لا يا ولدي يا الطفيلي، لا، مو هيك. ابني ابنك اريده ان يتعلم.

قلت لها بحزم وبصوت فاصل: لا ترجعي الى المدرسة مرة ثانية، نحن أحنّ على ابنك منك والشغل شغلنا. ردت باستسلام: الولد ولدكم وانا ما لي شغل.

عادت ادراجها تتلفت خلفها بين الفينة والأخرى وكأنها تظن انني ساضع عقلي بعقل ابنها وانني سأرسله خلفها او انني سأوسعه ضربا.


******

كيف يصبحون مسؤولين أولئك الذين لا يعرفون قرى الأردن وباديتها ومخيماتها؟

اية قرارات ذات بعد شعبي انساني سيتخذون؟

في احد مجالس الوزارات قبل سنوات قال وزير المالية ان أسعار الاعلاف ارتفعت من مصدرها، ولذلك أنسب لمجلس الوزراء برفع أسعار الاعلاف المدعومة على مربي المواشي والدواجن.

ايد رايه عدد من الوزراء وعارض بعضهم.

كان عام انحباس الامطار وعام محل، انتكب فيه المزارعون ومربو المواشي فاصبحوا غير قادرين على اطعام مواشيهم فعمدوا الى بيع نصف القطيع لينفقوا على النصف الاخر وبدل ان يتم تخفيض أسعار بيع الاعلاف المدعومة لهم، يريد بعضهم ان يرفع عليهم الأسعار!!

*****

كانت المخافر والثكنات العسكرية هي اول التعليم في الاردن، فقد تم اعتمادها واعتماد نمط جديد من المعلمين، هم المعلمون المتنقلون في بداية الثلاثينيات، لتعليم الجنود وتدريسهم وازالة أميتهم، وسط إقبال كثيف على "فك الحرف" الذي كان لغزا. ثم تولى الجيش عبر مدارس الثقافة العسكرية تبعات التعليم واعباءه في المناطق التي لا تتمكن وزارة التربية والتعليم" وزارة المعارف آنذاك" من الوصول اليها او بهدف تعليم أبناء العسكر الذين سيصبحون عسكرا يرثون الشعار والبوريه من آبائهم.

فتم انشاء مدرسة القويرة وكلية الشهيد فيصل عام 1946 ومدرسة النصر- مدرسة الثورة العربية الكبرى عام 1949.

درّسَنا في المدرسة العسكرية الهاشمية في المفرق، معلمون عسكريون من مختلف الرتب، برئاسة ضابط دمث طيب هو الملازم عادل محمد حسن. ولن انسى عندما زار مدرستنا عام 1962 عثمان بدران مدير الثقافة العسكرية، المجاهد الكبير في فلسطين، الذي حمل لنا حلوى "الككس" التي رأيتها للمرة الأولى والتهمت حبة منها بعد ان تأمّلتها طويلا.

كانت المدارس العسكرية تتميز بالجدية والصرامة والضبط والربط، وكان الطلاب كأنهم جنود في ثكنة عسكرية. وقد صقلت شخصيتي كثيرا السنوات الأربع التي درستها في تلك المدرسة، السادس والسابع والثامن والتاسع ( 1959-1963).

عام 1963 قدمت امتحان الثالث الاعدادي العام على مستوى المملكة، واظن انني أحرزت علامات عالية جدا جدا فيه.

كان المعلمون أولّ الطلائع الأردنية المباركة التي رادت القرى، قبل الصحة والطرق والهاتف بسنوات، وقد اسلفت بذكر المشاق والقسوة والصعوبات التي عمل فيها المعلمون دون تبرم او تذمر، ولما سردت لجدي ما الذي كنا نعمله من غسل وبح وكوي وكنس وطبخ وجلي وعجن وخبز وتحطيب ونتف ريش الشنانير التي نصطادها وذبح الخراف التي نشتريها وسلخها وتقطيعها قال مستغربا: كل شي عملتوه وما ظل غير ترضعوا !!

كانت على المعلم مسؤوليات تتعدى غرفة الصف وتتجاوز سور المدرسة، مسؤوليات تتنوع وتتوزع على مختلف شؤون الحياة الخاصة بطلابهم.

لعب المعلمون أدوارا كبيرة في حياتي وجمعتني بهم صلات طيبة وساظل اذكر العصامي الجاد معلم اللغة الإنجليزية خلف الناطور المخزومي وعبد الله تليلان معلم الرياضة المحترف المخلص وعادل الشريقي وأبو علاء الداغستاني وذوقان عبيدات الذي تبادلت معه الكتب في حينه وعشرات المعلمين الذين ستستردهم الذاكرة ولو بعد نصف قرن.

عندما أصبحت صحافيا بحثت عن عثمان بدران وأجريت معه لقاء صحافيا حدثني فيه عن ذكرياته وتاريخه الجميل النبيل.

نشرت ذلك اللقاء في صحيفة "صوت الشعب" تحت عنوان وجها لوجه. وعندما أصبحت وزيرا للشباب بحثت عن عبد الله تليلان وتمنيت عليه ان يقبل عضوية اللجنة الأولمبية الأردنية. وبحثت أيضا عن المبدع المتميز ذوقان عبيدات وتمنيت عليه ان يقبل امينا عاما للجنة الأولمبية الأردنية.


*******

اشعر ان هذا الجزء من ذكرياتي اوشك على التمام وارجو ان تكون قد أدت الغرض منها. ولطالما خشيت ان أكون قد اطلت الا ان الأصدقاء الذين تابعوا هذه الكتابة ظلوا يلحون عليّ بان اواصل. علما انني اكتبها او اعيد تنقيحها في 6 و 8 ساعات يوميا.

ويجدر ان اذكر انني اكتبها بمنتهى الاعتناء والتدقيق، وقد تحمّل الكثير من الايميلات من اجل المزيد من الدقة الأستاذ مصطفى الريالات رئيس التحرير المسؤول ومدير مكتبه البلدوزر لؤي الوحيدي بالإضافة الى طاقم التنفيذ المبدع.

لقد حثّني ابني عمر طويلا على كتابة هذا اللون فقد كنت اقص عليه وعلى اسرتي أحيانا بعض ما جرى معي.

وبعد ان بدأت واصل ابداء ردود فعل مشجّعة اعتمدتها لانني اعتبره ضميري وناقدي الذي اثق بسلامة ذائقته.

وكان للتعليقات الكثيرة التي تلقيتها دور حاسم في الاستمرار ومواصلة الكتابة وقد استغربت كيف يهتم أبناء هذا الجيل بتلك المعاناة التي مر عليها نصف قرن وأصبحت من الماضي.

واسمحوا لي ان أوجه التحية الحارة الى من واكبوا هذه الذكريات وساهموا في استمرارها بالتوجيه والنصح والتصحيح والاستزادة.

مواضيع قد تهمك