الأخبار

داودية : ذكريات و عِظات -20-

داودية : ذكريات و عِظات 20
أخبارنا :  

محمد داودية :


جاءني كتاب النقل من مدرسة سويمة في منطقة البحر الميت، إلى محافظة معان فتلقفته بلهفة وامتنان.

ذلك أنني عشت نحو سنتين من سني طفولتي في معان ودرست فيها صفين ابتدائيين.

عشت في كنف أخوالي الخوالدة- آل خطاب كرام الناس، أميرا مدللا، تحفني العناية والرعاية، أجد لي في عشرات البيوت مودة وحنوا وترحابا.

وكما عشت طفلا في بيت جدي مزعل أبو ابراهيم في معان وانا طفل، سكنت شابا في بيت خالي إبراهيم، والد عادل آل خطاب نائب معان الفارس الجسور.

واذكر ان ابن خالي النائب الفحل عادل زارني عندما نجح في انتخابات مجلس النواب الخامس عشر وسألني النصح في المسار الذي ينبغي أن يأخذه في مجلس النواب.

قلت له وانا اعرف انني اتحدث الى فارس مهاب، لكلمته حساب ودوي هائل في معان التي كان احد شيوخها البارزين، ان ذلك يعتمد على الاهداف التي تريد تحقيقها من وراء النيابة ياخال.

وأكملت ان وجودك في كتلة كبيرة سيعطيك قوة ومساحة اكبر للموالاة او المعارضة.

واضفت: ان ممشاك على خطى الناىب البارز يوسف العظم وميولك نحو الاخوان المسلمين وصداقتك معهم تصنفك في خانة المعارضة، وهذا شأنك.

أما اذا اردت ان تحقق لمعان شيئا من مطالبها العامة والخاصة فيمكن لك ان تنسق مع كتلة عبدالهادي المجالي ومفلح الرحيمي وعبدالله الجازي.

اختار الخالُ -كما كنت متوقعا- كتلة الإخوان المسلمين النيابية. ولما وافته المنية يوم الثلاثاء 10 أيار 2011، أمّ المراقبُ العام للإخوان المسلمين الدكتور همام سعيد المصلين عليه في مسجد معان الكبير.

*******

تم تعييني، معلما للغة الإنجليزية والرياضة، في مدرسة فلسطين في قلب مدينة معان.

اعتُقل المعلمُ البعثي، عبد الحميد الذنيبات، الذي كان معلما منفردا في مدرسة بير أبو العلق في الشوبك، فظل طلابُ مدرستها شهرين بلا معلم.

أعربت عن رغبتي في العمل بالمدرسة إلى حين الإفراج عن المعلم المعتقل.

*****

عصرا، حملني عودة المعاني مدير التربية والتعليم في معان، بالسيارة الرسمية إلى قرية بير أبو العلق وطلب مني أن استخدم «يطق» المعلم الذنيبات: السرير والطناجر والبريموس وملحقاتها.

أوصلني الرجل الشديد التهذيب والرفق إلى المدرسة ومضى.

كنا في شهر تشرين الثاني عام 1966، وبرْدُ الشوبك الرهيب في أول تفتحه، وثلج الشوبك الموصوف، في طوره الجنيني.

وجدت في الغرفة سريرا وفرشة ولحافَ صوف وصوبة ديزل.

كنت حملت معي من معان «جركني ديزل ورطل خبز وكروز سجائر كمال وكروز كبريت وعبوةً سعة كيلوغرامين من زيت الزيتون وعبوةً من الزيتون المكبوس الطازج.

وحملت معي عددا من معلبات التونا ماركة الوردة اليابانية الصنع ومعلبات البولبيف البرازيلي الشهيرة ماركة اكسترا وكمية من البيض والملح والسكر والشاي.

وبالتأكيد حملت معي راديو «ترانزستور» وبطاريات إضافية وحقيبة مليئة بالروايات وبدواوين الشعر وأبرزها ديوان المتنبي وديوان الهذليين، الذي فيه أبلغ قصائد الرثاء الإنساني بلا منازع، التي يقول في أبرزها أبو ذؤيب الهذلي في رثاء بنيه وكانوا خمسة أصيبوا في عام واحد:

أَمِنَ المنون وريبها تتفجّعُ

والدهرُ ليس بمعتبٍ من يجزعُ.

قالت اميمةُ ما لِجِسْمِكَ شاحبٌ

منذُ ابتذلتَ ومثلُ مالكَ ينفعُ.

فأجبتها أن ما بجسميَ انه

أَوْدى بنيَّ مِنَ البلادِ وَودَّعوا.

إلى أن يقول أبو ذؤيب:

وإذا المنيّةُ أنشبت أظْفارَها

الفَيتَ كُلَّ تَميمةٍ لا تَنفَعُ.

وعن بيت شعر من نفس هذه القصيدة العينية قال الأصمعي ان أبرع بيت قالته العرب هو بيت أبو ذؤيب:

والنفسُ رَاغِبَة إِذا رَغَّبْتَهَا،

وَإِذَا تُرَدُّ إِلَى قَلِيْلٍ تَقْنَعُ.

*****

فتحت ثلاثَ علب تونا أكلتها على الواقف. شربت زيتها، تناولتها بدون صحن، بدون ليمون وبدون خبز. اعتقد انني استخدمت اول ليمونة بعد عدة سنوات !!

نمت بعمق لم أعهده، استيقظت نحو الساعة السابعة صباحا وتوجهت إلى بئر الماء القريب ومنه "نشلت" دلو ماء.

غسلت طنجرتين وسطلا من الألمنيوم وضعت الماء فيها ثم وضعت إبريق الشاي على الصوبة.

لاحظت وجود صناديق وعلب مغلقة، اكتشفت أن غرفتي مليئة بالمواد الغذائية المكونة من الشاي والسكر وأكياس الحليب المجفف وعدس حب وفاصولياء وبازيلاء ناشفة وأكياس صغيرة من الملح وعدد من عبوات المربى "التطلي". ووجدت كيسي طحين.

حدثت نفسي -ومن غيرها لأحدثه- لعل المعلم الذنيبات يتاجر بالمواد الغذائية !!.

أفطرت بيضا مسلوقا وبضع حبات من الزيتون. أشعلت سيجارة وتجولت أمام المدرسة في طقس نديّ خرافي النقاء، لدرجة أنني لمت نفسي على تلويث بيئة بلادي بسيجارتي.

نظرت إلى ساعتي الجوفيال، كانت تشير الى الثامنة. لم يصل الطلاب بعد.

أصبحت الساعة التاسعة والعاشرة والثانية عشرة والثانية بعد الظهر ولم يأتِ الطلاب.

ذهبت إلى القرية فلم أجد فيها أحدا. كنت وحيدا في تلك البقعة الجبلية الباردة.

مرت أربعة أيام لم أشاهد خلالها إنسيا. ولم أتحدث مع احد. بلغ ضجري وتوجسي وترقبي مداه.

كان معي مسدس «بيرتا» اشتريته من معان بسعر 30 دينارا بالتقسيط المريح، دينارين شهريا، بكفالة الخال أبو عادل تحوطا من الوحوش التي تتحرك على شكل مجموعات والتي حذرني منها هاني سكر ومحمد عوض كريم ومحمد عطية اخو عميرة وعدد من الأصدقاء.

ذات عصر، لمحت خيّالا يتحرك على بعد كيلومترات، لوحت له بيدي فلم الفت انتباهه. أطلقت طلقتين في الهواء. توقف وجال بناظره ثم توجه نحوي.

تغدينا مربى وتونا وبيضا مقليا بالسمن البلدي، كان الرجل يحمله.

قال لي إن الأهالي يغادرون القرية بطلابهم وأغنامهم وخيولهم وحميرهم ودجاجهم وقططهم وكلابهم، في بداية فصل الشتاء إلى المناطق الغربية الدافئة «المدافي».

وقال إن الأهالي لا يعلمون بعد عن عودة المعلم إلى المدرسة.

بعد يومين طويلين من الانتظار جاء فرج الله. وصل الطلاب ومعهم عجوز تجر بغلين يحملان متاعا وطحينا.

سكن الطلاب العشرة في بيت واحد مكون من «قَطْعٍ» كبير ومعهم العجوز التي اوكِلت إليها مهمةُ الخبز والطبخ للأطفال: العدس والجريش والرشوف.

عرفت من الخيّال أن المواد الغذائية الموجودة في غرفتي هي تبرعات من جمعيات خيرية دولية لطلاب القرى الفقيرة.

وعلمت ان المعلم كان يوزع المواد الغذائية على الأهالي في مطلع كل شهر. فقررت أن أغير النظام الذي لا يحصل الطلاب بموجبه على إذن الجمل. فقد كان الأهالي يبيعون تلك المواد مقابل الهيشي والراحة الحلقوم وغيرها.

نقلت مقاعد الطلاب من الغرفة الأخرى ذات الزجاج المكسور التي تشبه «الفريزر» في شدّة برودتها، إلى غرفتي وأصبحتُ ادرّس الطلاب فيها.

على الساعة العاشرة صباح كل يوم، بما فيه يوم الجمعة، كنت اقوم بغلي الحليب المجفف في الطنجرة الكبيرة، على بريموس المدرسة الضخم، واسكب للطلاب في أكواب كبيرة، الحليب الدافئ المحلى وهم يتحلقون حول الصوبا ووجوههم غاية في الطمأنينة والاحمرار.

كان ثلاثة من الطلاب في الصف الثاني وثلاثة في الصف الثالث وثلاثة في الصف الرابع وطالب في الصف الخامس.

*****

ما أغنى وما أقوى البلد التي تفتح مدرسة وترسل معلما لعشرة طلاب في قرية مقطوعة في مطلع ستينات القرن الماضي !!

****

بعد قليل هطلت ثلوج الشوبك كثيفة بلا انقطاع لمدة ثلاثة أيام، فوصل ارتفاع الثلج إلى نصف ارتفاع باب الغرفة.

لم يأتِ الطلاب فذهبت إلى مسكنهم للاطمئنان عليهم، وصلتهم شبه متجمد، ووجدت العجوز وقد أشعلت حطبا في الغرفة التي يتعذر أن يرى من فيها ابعد من أصابعهم.

ناولتني رغيف خبز ساخنا وقطعة من السمن البلدي وألقت عليّ فروة ثقيلة كانت تنام فيها.

مر وقت قبل أن اشعر بالدفء، أصر الطلاب على أن أنام عندهم، فنمت !

سهّرتهم وحكيت لهم كيف هو العالم في الخارج، ورويت لهم قصصا عن تاريخ المنطقة، عن ممالك اسلافهم الجبارين المؤابيين والآدوميين والأنباط الذين تبعد مدينتهم البترا عنهم، مسافة 25 كيلومترا فقط.

استأت عندما علمت أن الطلاب لم يزوروا البترا !!

عندما حل الربيع، استأجرت «بكبا» بدينارين ذهابا وإيابا، حملَنا إلى البترا، حيث أمضينا يوما كاملا نتجول بين آثارها ونتعرف على تاريخها، من دليل سياحي شهم، يملك مطعما صغيرا أصر على أن يدعونا اليه لتناول طعام الغداء المكون، حسب إصراري، من ساندويشات الحمص والبطاطا المقلية والفلافل وزجاجات كازوز سحويل، التي كان الطلاب يشربونها للمرة الأولى في حياتهم !

أصبحت امضي «الويك إند» في ركوب الخيل من قريتي «بير ابو العلق» الى وادي موسى والبترا حيث أنام ليلة في الفنادق الشعبية. أو امضي العطلة في ضيافة المعلم محمد الملكاوي في بير الدباغات، التي تبعد عني 5 كيلو مترات، كلما سمح لي الطقس بالحركة.

كنت أتحرك بعد ظهر يوم الخميس وأنام في قرية بير الدباغات ليلتين وأتحرك عائدا إلى طلابي ومدرستي صباح يوم السبت، فامشي المسافة الفاصلة بين المدرستين، والندى يبلل رموش عينيّ. اصعد المرتفعات واهبط المنحدرات، في الطريق الترابي الفاصل بين القريتين متحزّما بمسدسي البيرتا.

لاحقا استبدلت المسدس ببندقية خرطوش، اصطدت فيها حجلا بالعشرات، كنا نعكف أنا وزميلي الملكاوي على نتف ريشه وتنظيفه ثم نشويه على حطب البلوط واللزاب ونأكل أشهى «باربكيو» تناولته في حياتي.

*****

كان الناس على نقاء وصفاء وفطرة وعلى براءة أخّاذة. وعلى عفوية فاتنة. وعلى ودّ باذخ.

وما يزالون.

مواضيع قد تهمك