الأخبار

داودية : ذكريات و عِظات -18-

داودية : ذكريات و عِظات 18
أخبارنا :  

محمد داودية :


ذكرت انني عملت مع عدد من الشباب في رصف طريق المفرق- منشية بني حسن وكان ذلك في صيف عام 1963 اللاهب.

وضعنا فرشات النوم والأغطية في القلاب الذي كان ينتظرنا ساعة الغروب قرب المسجد الكبير (والحقيقة المسجد الأوحد).

كان في المفرق أربع كنائس ومسجد فسيح واحد فقط يقع على مساحة واسعة في قلب المدينة، بالقرب من سوقها وبلديتها ومدرستها الابتدائية !!

سهرنا سهرة خرافية، ضحكنا من قلوبنا الغضة المليئة بالعزم والبراءة والحماسة والإقبال. حدثنا محمود كساب عن عمله مع عمر الشريف في فيلم لورنس العرب في وادي اليتم والعقبة. وحدثنا توفيق هلال النمري عن اختناقه وعن رغبته الملحة في التوحش، وحكى لنا عن رحلة التوحش الأخيرة التي استغرقت أربعة أيام بصحبة الياس القسيس وآخرين، ذهبوا الى أحراش دبين وغابوا عدة أيام بين أحضان الطبيعة وعادوا منهكين متعبين، لكنهم خاضوا تجربة اقتحامية فريدة.


*******

تجمعنا أمام خيمة «المراقب» «الفورمان» في تلك الورشة الكبيرة، في فجر المفرق الصيفي الندي.

أعطى المراقب كل واحد منا «قَدّوماً» وقفّةً، واطلعنا على العمل المطلوب. حدد لكل واحد منا مساحة مطلوب رصفها بإتقان كامل، وعاد الى خيمته.

كان العمل شاقا جدا. كان عليّ ان اظل مقوس الظهر، مقرمزا، اكسّر الحجارة المختلفة الأحجام بالقدوم لأجعلها في حجم متقارب وفي مستوى واحد دون بروز او هبوط. كان عملنا يمتد نحو عشر ساعات، أصعبها وأقساها وأوسخها وأعنفها، هي تلك الساعات الطويلة اللزجة الثقيلة التي لا تنتهي، الممتدة من الساعة الثانية عشرة إلى الساعة الثالثة بعد الظهر. حين تحس ان عامود الشمس ينغرس في جمجمتك.

ما كان يخفف عنا ويجعلنا نبقى ولا نَفِرُّ من لهيب ذلك الجحيم، هو تلك السهرة القصيرة التي تبدأ بعد الغروب.

كنا في خيمة واحدة، والحديث يتطوع بين طرائف، تمثيل، شعر، سينما، سياسة، يهود، المراقب السكران طيلة الوقت، العشاء المتكرر والشقاء مقابل ملاليم.


*******

صحونا في منتصف الليل، كانت خيمتنا تحترق، ضرب كمال شحاتيت، وهو غارق في احد كوابيسه، الفانوسَ النائس المركون في منتصف الخيمة، فقلبه، وسال منه الكاز فأمسكت النار بطرف فرشته القطنية وهو غارق في كابوسه الغامض.

كان السخام في الخيمة كثيفا لدرجة انه أصبح كتلا يمكن ان تمسك باليدين.


*******

لاحقا، ذهب الصحبُ الى البعيد، في رحلات توحش مختلفة، لكنها كانت اشد قسوة.

ذهب علي محمد إبراهيم مشري الخوالدة على ظهر باخرة شحن في رحلة طويلة إلى اليونان وايطاليا إلى أن استقر به الترحال في ملبورن باستراليا، حيث تزوج فتاة يونانية تعرف عليها في معهد اللغة الإنجليزية هناك.

ولما كنت سفيرا في اليونان زارني وأولمت له ولزوجته في منزلي الواقع في ايكالي، أرقى أحياء أثينا، ودعوت على شرفه نسايبنا الإغريق.

وذهب توفيق هلال النمري في مسارات صعبة متعرجة أخرى، من المفرق إلى الخليج العربي الى ان استقر به المطاف في ولاية تينيسي بأميركا. وهو يعيش الان حياة مرفهة يمضيها في رحلات بحرية مع زوجته الطيبة منتقما عن كل الشباب من سنوات الشقاء.

وذهب عيسى بطارسة في رحلة مغامرة الى اميركا رغم ان دخله في عمان من التلفزيون الأردني ومن صحيفة الرأي ومن التخطيط كان اكثر من دخله في كاليفورنيا.

وقد زرته في منزله بكاليفورنيا في آب 2011 بصحبة ابني حسن وصاحبيه زيد جمال ابو عابد وسيف مهند العفوري فأولم لي منسفا سوفانيا «ما بنشبع منه".

وزارني الاب اميل حداد وعيسى بطارسة في جاكرتا ومكثا أياما كانت من الأيام الجميلة العزيزة وبالطبع وكأي اردني دعوت على شرفهما عددا من السفراء وابناء الجالية الاردنية !!


******

في الصف الأول الثانوي وفي السادسة عشرة من عمري، أصبحت مقاولا، قبل ان يولد المهندس احمد اليعقوب نقيب المقاولين الحالي !!.

تعهّدتُ اول ورشة بناء وكانت صبّة سطح بيت.

اتفقت مع صاحب البيت على الأجرة التي كانت ستة عشر دينارا، قبضت نصفها مقدما قبل يومين من بدء العمل، وقبضت النصف الآخر بعد ان أنجزنا الصبة.

طرقت أبواب أربعة رجال أشداء مفتولي العضلات عرضت عليهم العمل معي في الصبة بأجرة دينارين وهي أجرة مضاعفة، فوافقوا.

انجزنا خلطة الاسمنت المرهقة ثم شرعنا في رفعها بأوعية تنكية، على أكتافنا، منذ الساعة السادسة فجرا. انهينا العمل على الساعة العاشرة صباحا.

عملنا بكد ومشقة وسرعة وإتقان على نظام المقاولة. أي انجز العمل واقبض أجرتك وانصرف دون اعتبار للوقت.

كنا نغني بمتعة وتحدٍ ونحن نمشي على السقالات نرفع الباطون الى السطح:

ولّع الباطون ولّع

إشتغل والا تقلع.

قبضت بقية الأجرة ووزعتها على العمال الأربعة واحتفظت لنفسي بمبلغ الثمانية دنانير !!


******

وكرّت المسبحة.

صرت وجها معروفا في عالم صبّات الباطون، ومقاولا متميزاً، التزام بالحضور على الوقت المحدد، على خلاف معظم المقاولين، توقيتي مثل ساعة بق بن، اشتهرت بسرعة الإنجاز وبدقته وبإتقانه وبنظافته. كان من نصيبي ثلاث او أربع صبات في الشهر، أقوم بها أيام الجمع فقط، وكان المردود فاخرا بالنسبة لطالب في الصف الأول الثانوي.

كنت استأجر رجالا مفتولي العضلات بشوارب كثّة مكتملة، أزواجاً وأربابَ أُسر وآباء. كانوا يعملون لديّ وهم يعلمون أنني انا الفتى اليافع أتقاضي أجرة تعادل أجرة أربعة رجال منهم، فلا هُم تذمروا ولا هُم فكّروا في القيام بنفس عملي، ولا أنا استكثرت على نفسي ان أقود رجالا مكتملين في عمر الوالد.

ولاحقا أيقنت أن الدنيا للمبادر والجسور والمغامر. وأن القيادة تولد مع الإنسان.


******

لكنني حين عملت تاجرا، خسرت !


******

خرجت الى شرفة شقتي الأرضية، في إسكان الصحافيين بطبربور، المكون من 67 شقة في 11 بناية. وهو اسكان محترم تبرع به عام 1979 لنقابة الصحافيين، الرئيس العراقي الراحل صدام حسين يرحمه الله.

كانت ابنتي عدن ذات ال 9 أعوام تقف في الساحة الخارجية للعمارة رقم 11، المكونة من 6 شقق في 3 طوابق، اتفقنا نحن الأصدقاء الستة على السكن فيها متجاورين: عزام بدر، حافظ ملاك، عماد القسوس، يوسف العبسي، احمد الحسبان وانا.

كانت طفلتي عدن تقف وظهرها لي، وسط مجموعة من الأولاد والبنات الجالسين على الأرض، وهي تحمل عصا خشبية اطول من قامتها.

كان عدد الأولاد والبنات يزيد على 10، يترتبون في نصف دائرة واسعة، وطفلتي عدن تلعب دور مديرة المدرسة، فتطلق الأوامر والنواهي بلهجة آمرة حاسمة.

كان في ذلك الطابور أولاد وبنات يكبرونها عمرا بثلاث واربع وخمس سنوات.

أدهشني المشهد، واخذت اتساءل، من سلّم تلك الطفلة الطفيلية الشركسية عجلة القيادة؟

ملت إلى تفسير ان القيادةَ فطرةٌ !


*****

اسائِل نفسي أحيانا أن كنت ولدت بمناعة طبيعية ضخمة. وكانما ولدت منذورا ومهيأ للشقاء. لم أكن مَرِقاً ولا مايصا (مرق ومايص مصطلحات طفيلية تعني ما كنتش دلع).

ولم اذكر انني تذمرت.

ولم اذكر انني زرت طبيبا الا مرة واحدة خلال سنوات عمري العشرين الأولى.

ولا أذكر أنني زرت طبيبا طيلة عملي معلما لمدة أحد عشر عاما. ربما هو حليب الأمهات الأربع اللواتي ارضعنني في الإجفور. أو هي بيئة البادية الجافة. أو هي الجينات المختلطة الطفيلية المعانية. أو هي كلها مجتمعة.

وانا هنا اؤكد على أن ما انطبق عليّ، انطبق على أبناء جيلي أولاد العسكر والعمال والحراثين وصغار الكسبة.

لا أزعم التفرد بالكفاح والعصامية، فكل أبناء بلادنا الفقيرة كافحوا وجهدوا وخرجوا من قاع البئر المظلم الرطب السحيق إلى الضياء والنور والبناء.


******

قلت انني عملت تاجرا وخسرت.

لقد تحولت من عامل إلى مقاول يعمل في الرمل والإسمنت والغبار والشمس، ثم الى تاجر يعمل في الظل، يجلس على مقعد وثير تحت مروحة لا تتوقف.

دلني صديقي عضو قيادة حزب التحرير الإسلامي، هاني محمود عبد القادر سُكّر العقايلة على تاجر تصفية كبير في شارع بسمان بعمان، اتفقت معه على ان آخذ من عنده 200 بدلة المانية فاخرة جديدة، برسم البيع، اعرضها على "ستاندات" في المفرق واحاسبه على ما ابيعه منها أولا بأول.

استأجرت جزءا من مخيطة الخياط الطيب سعيد سعود حداد.

كان الإتفاق ان ادفع فاتورة استهلاك الكهرباء البالغة خمسة دنانير، وان ادفع له خمسة دنانير أخرى جزءا من اجرة المخيطة الشهرية، على ان يتولى هو تقييف البدلات التي ابيعها لتصبح في مقاس من يشتريها.

كانت البداية متوازنة، فقد بعت في الشهر الأول عشر بدلات بسعر سبعة دنانير ونصف الدينار للبدلة الواحدة التي كانت كلفتها عليّ اكثر من خمسة دنانير ونصف الدينار.

دعوت عمي جعفر وأهديته بدلة. ودعوت خالي إبراهيم واهديته بدلة. وزارني معلمي الدكتور خلف الناطور المخزومي الذي درّسني اللغة الإنجليزية، فبعته بدلتين بسعر الكلفة.

قلت لنفسي: عيب عليك يا محمد. ان تربح من استاذك.

وبعت عددا من البدلات لعدد من الأصدقاء بسعر الكلفة وبالتقسيط أيضا.

كان الأصدقاء يتجمعون في مخيطة سعيد يوميا، ولا يخلو يوم من وجبة دسمة تجمع الأصدقاء واصدقاءهم. كانت لنا صفة التجمع الشبابي السياسي الثقافي، مما قادنا الى الحديث في تأسيس نادٍ او جمعية ثقافية.

اصبح الخياط سعيد يحب جلستنا، وأخذ يُسرّ لي بملاحظاته المتنوعة عن الشلّة: هذا مصلحجي. هذا فشّار. ذاك صادق. ذاك يريد الخير لك. وذاك يحسدك ويغار منك.

ذات يوم باح لي بما قال انه تردد كثيرا في البوح به:

يا محمد انت لا تصلح تاجراً.

ثم ضحك وقال: انت افشل تاجر مرّ وسيمر عليّ.

واستطرد سعيد: اترك التجارة فهي ليست لك. انت تبيع بأقل من الكلفة. وتهدي من مال غيرك. وتبيع بالتقسيط. وتنفق مما تبيع وهو ليس مالك.

واضاف: يا محمد، ستتأبط ديونا ثقيلة. هذه مخيطة ومحل رزق وانت جعلتها مطعما مجانيا، تنفق من جيبك اكثر من دخلك منها.

كان سعيد حداد ناصحا امينا !!


*******

عندما جمعت وطرحت ما بعت وما كسبت وما خسرت، وجدت نفسي مدينا بخمسة اضعاف راتبي، فاستنجدت بصديقي هاني يرحمه الله، الذي اقنع صديقه تاجر التصفية بقبول تقسيط المبلغ الذي "انكسرت" به.


******

لقد انتهيت إلى ما انتهى إليه فأر القرع، وتلك حكاية أخرى.



مواضيع قد تهمك