اسماعيل الشريف : استثمار الدماء
في أستراليا، كانت مؤشرات ما يُسمّى معاداة السامية تنذر بالسوء منذ وقت
مبكر. بدأت بوادرها في ساحة دار أوبرا سيدني بعد ليلتين فقط من هجوم السابع
من أكتوبر، وكان ينبغي وأدها في مهدها آنذاك، غير أن عجز السلطات أسّس
لنمطٍ من الإهمال سرعان ما تُرجم إلى مشاهد مروّعة لاحقة- من افتتاحية
صحيفة ذا صن الأسترالية.
يقدر عدد اليهود في العالم بنحو خمسة عشر
مليون نسمة، يقيم نصفهم في فلسطين المحتلة، فيما يتوزع النصف الآخر على
أنحاء العالم، مع تمركز أساسي في الولايات المتحدة، تليها كندا ثم
أستراليا، ويظل المشروع الصهيوني الاستيطاني معتمدًا في بقائه وتوسّعه على
استمرار تدفّق موجات هجرة يهودية جديدة.
قرأت تقارير عديدة إلى مساعٍ
صهيونية حثيثة لجلب اليهود المقيمين خارج فلسطين المحتلة إلى المنطقة، بغية
مواجهة التحدي الديمغرافي داخل الأراضي المحتلة عام 1967، ثم في المناطق
الجديدة التي يحتلها الكيان، وأي أراضٍ قد تمتد إليها أطماعه مستقبلًا.
ولتحقيق هذا الهدف، تُستخدم وسائل متناقضة في ظاهرها، متكاملة في غاياتها؛
إذ يجري استقدام اليهود إمّا عبر الإغراء وإما عبر الإكراه، وصولًا إلى عقد
تحالفات مع اليمين المتطرف الداعي إلى طرد اليهود، على نحوٍ يذكّر
بتحالفات سابقة مع النازية. وفي السياق ذاته، تُغذّى موجات ما يُسمّى
«العداء للسامية»، مع الاشتباه في تورّط صهيوني في بعض أعمال العنف التي
تستهدف اليهود ودور عبادتهم، بهدف واحد لا يتغيّر: بثّ الخوف ودفع اليهود
للهجرة نحو «إسرائيل» بوصفها الملاذ الآمن وواحة السلام المزعومة.
ويزخر
التاريخ بأمثلة دامغة على تورّط صهيوني مباشر في قتل اليهود أو تعريضهم
للخطر لإجبارهم على الهجرة؛ من تفجيرات استهدفت مؤسسات يهودية في بغداد
مطلع خمسينيات القرن الماضي لإشاعة الذعر وتسريع النزوح الجماعي، إلى تجنيد
يهود مصريين في عمليات سرّية داخل مصر عام 1954 عُرفت لاحقًا بقضية لافون،
وصولًا إلى حادثة إغراق سفينة مهاجرين يهود قبالة حيفا عام 1940 أثناء
الانتداب البريطاني، والتي أودت بحياة المئات.
ومن هنا، كان لا بدّ من
هذه المقدّمة قبل الانتقال إلى الحديث عن خمسة عشر قتيلًا سقطوا في الهجوم
الذي وقع يوم الأحد الماضي أثناء الاحتفال بعيد الحانوكا على شاطئ بوندي في
سيدني.
فور وقوع الحادثة، سارع الصهاينة ووسائل الإعلام الغربية
والساسة الفاسدون إلى استثمار الحدث سياسيًا؛ فبدلًا من تحميل المسؤولية
لمن نفّذوا إطلاق النار، وهم معروفون تمامًا، جرى اتهام مئات المواطنين
الأبرياء بالتورط في الجريمة، والقاسم المشترك بينهم أنهم كانوا من قادة
الاحتجاجات في أستراليا ضد الإبادة الجارية في غزة.
خاطب مجرم الحرب
نتن ياهو رئيس الوزراء الأسترالي أنتوني ألبانيزي قائلًا إنه دعاه إلى
التصدّي بحزم للمظاهرات المناهضة للإبادة، لكنه فضّل «الضعف» ولم يفعل
شيئًا، على حدّ تعبيره، «لقطع الخلايا السرطانية» التي كانت تنمو في
البلاد. وأضاف أنه كتب إليه سابقًا محذّرًا من أن الدعوة إلى إقامة دولة
فلسطينية «تصبّ الزيت على نار معاداة السامية»، وتكافئ حماس، وتشجّع من
يهدّدون يهود أستراليا، وتغذّي كراهية اليهود في الشوارع.
ولم يكن نتن
ياهو وحده في هذا المسار؛ إذ شاركه الاتهامات ذاتها كلٌّ من رئيس «الدولة»
إسحاق هرتسوغ ومسؤولو وزارة الخارجية الصهيونية، حيث وُجّهت السهام مباشرة
نحو رئيس وزراء أستراليا، محمّلين إيّاه مسؤولية الحادثة، في توظيفٍ فجّ
لدماء القتلى بهدف تحقيق أكبر مكسب سياسي للصهاينة. وبالنهج نفسه، سارع
كارهو المسلمين والمهاجرين، ومعهم مؤيّدو الصهيونية، إلى تحميل المتظاهرين
المسؤولية، والدعوة إلى تجريم الصحفيين الذين تجرّؤوا على إدانة الكيان
بسبب الإبادة في غزة. ولم يكتفوا بذلك، بل رفعوا إلى رئيس الوزراء
الأسترالي حزمة من تسعة وأربعين مقترحًا تحت شعار «مكافحة ما يُسمّى معاداة
السامية»، تضمّنت إجراءات قمعية مثل الترحيل، وقطع تمويل الجامعات، وفرض
رقابة مشدّدة على وسائل الإعلام.
وكانت الحادثة فرصة ذهبية لوسائل إعلام
متورّطة أخلاقيًا في تبرير الإبادة الجماعية لبثّ سمومها؛ إذ كادت تتفق
جميعها على أن المظاهرات المناهضة للإبادة كان ينبغي منعها. ويكفي مثال
واحد على ذلك ما كتبه بريت ستيفنز في نيويورك تايمز بمقالٍ حمل عنوان «شاطئ
بوندي هو ما تعنيه عولمة الانتفاضة»، زاعمًا أن منفّذي الهجوم تلقّوا
عمليًا تعليماتهم من المتظاهرين المناهضين للإبادة، ومعتبرًا أن شعارات مثل
«المقاومة مبرّرة» و«بكل الوسائل اللازمة» شكّلت، برأيه، الإطار الذهني
للجريمة.
ورغم التعتيم الإعلامي والخطاب السياسي المعادي للإسلام، كشفت
مشاهد مصوّرة لحظةً كاشفة: رجل مسلم أعزل يتمكّن من إسقاط أحد مطلقي النار
ونزع سلاحه. مشهد واحد كان كفيلًا بتعرية السرديات الجاهزة، وإسقاط
الادعاءات التحريضية، وفضح زيف الخطاب المعادي للمسلمين.
في هذه
الحادثة، لم يكن الضحايا محور الاهتمام بقدر ما كانت دماؤهم وقودًا لمشاريع
سياسية واضحة: بثّ الخوف في أوساط اليهود حول العالم، قمع المظاهرات
المناهضة للصهيونية، تشويه صورة المسلمين، معاقبة كل من يجرؤ على الانحياز
إلى فلسطين، وقطع الطريق أمام أي مسار قد يقود إلى قيام دولة فلسطينية.
وفي
خضم هذا السيل من التصريحات والتقارير، جرى تغييب الحقيقة الأوضح: لم يجرؤ
أحد على القول إن الإبادة الجماعية في غزة شكّلت الدافع المركزي لهذه
الجريمة. فالمسؤولية الأولى، حتى وإن لم تُمسك بالزناد مباشرة، تقع على
عاتق نتن ياهو، ومعه متطرّفو حكومته، والساسة الفاسدون، وشبكة المصالح التي
يمثلها المجمّع الصناعي الذين نفذوا أبشع إبادة في العصر الحديث.