الأخبار

محمد علي الزعبي يكتب : عمر الرزاز... حاكمية العقل وسط عواصف الاستثناء

محمد علي الزعبي يكتب : عمر الرزاز... حاكمية العقل وسط عواصف الاستثناء
أخبارنا :  

محمد علي الزعبي : 

في خضمّ منعطف دقيق من عمر الدولة، تولّى دولة الدكتور عمر الرزاز رئاسة الحكومة على وقع مطالب إصلاحية عارمة وأزمة ثقة متراكمة بين الشارع وصنّاع القرار. لم يكن صعوده إلى الدوار الرابع تقليديًا، بل جاء محمّلًا بتوق الأردنيين إلى خطاب جديد، وممارسة مغايرة، وإدارة قادرة على كسر قوالب الجمود المزمن.

الرجل الذي امتلك خلفية فكرية واقتصادية متينة، سعى منذ اليوم الأول إلى أن يخرج بالإدارة العامة من مستنقع التكرار الإداري إلى مساحات أوسع من التغيير المؤسسي المنضبط. لم يكن مهووسًا بالشعارات، بل قدّم مشروعًا قائمًا على المصفوفات الوطنية كأداة تخطيط ممنهجة، لا تكتفي بتشخيص الأزمات، بل تطرح حلولًا قابلة للقياس والتنفيذ. ولأول مرة، بدا أن هناك حكومة تفكّر بمنطق الخطة لا بردّ الفعل، وبأفق التنمية المستدامة لا بحلول التسكين.

وقد تضمنت تلك المصفوفات رؤى واضحة لتحديث القطاعات الاقتصادية والتعليمية والخدمية، عبر تحفيز بيئة الاستثمار، وتبسيط الإجراءات، وربط مخرجات التعليم بسوق العمل، وتحريك عجلة الاقتصاد الوطني بمفاتيح واقعية. كانت فلسفة الرزاز في جوهرها محاولة جادة لإعادة الاعتبار لدور الدولة كمنظم وممكّن، لا كمحتكر أو معطّل.

ومع أن الحكومة لم تُمنح الوقت الكافي لإنضاج مشروعها، فإن الرزاز استطاع أن يرسّخ نمطًا جديدًا من القيادة الهادئة، المؤمنة بالحوار والاحتواء. ففي قضية نقابة المعلمين، تعامل مع الموقف بأعلى درجات ضبط النفس والحرص على تجنيب الوطن منزلقات الانقسام. لم يكن الصدام خياره، بل اختار طاولة الحوار، ساعيًا إلى الموازنة بين هيبة الدولة ومطالب المعلمين، وهو ما عكس قدرته على إدارة الأزمات بتعقّل ومسؤولية.

ثم جاء امتحان الجائحة. كورونا، ذلك الضيف الثقيل، فاجأ العالم، وأربك الخطط، وأجبر الحكومات على إعادة حساباتها. إلا أن حكومة الرزاز واجهت الموجة الأولى من الوباء بحزم وسرعة، واضعة صحة الأردنيين فوق كل اعتبار. ورغم أن الجائحة قيّدت تنفيذ عدد من البرامج الإصلاحية، فإن الحكومة أبدت مرونة لافتة في التكيّف مع المستجدات، وأطلقت حزمًا تحفيزية وإجراءات حمائية للفئات الأشد تضررًا.

وفي غمار هذه الأزمات المتشابكة، استطاع الرزاز أن يوفّق بين توجهات فريقه الوزاري المتنوّع، مؤسسًا لبيئة حوار داخلية، ومنهج عمل تشاركي عزّز من تماسك الأداء الحكومي. لم يكن رجلًا منفردًا بقراره، بل كان قائدًا يسمع، ويشاور، ويجمع الخيوط المتناثرة في قبضة واحدة.

وإذا أردنا اختزال تجربته بخمس ركائز مركزية، فإنها تقوم على: تحديث الإدارة العامة، تمكين الاقتصاد الوطني، تعزيز الحوكمة والشفافية، ترسيخ العدالة الاجتماعية، ووضع أسس تنمية مستدامة تتجاوز الحسابات الظرفية. تلك الركائز لم تكن شعاراتٍ فضفاضة، بل مبادئ أُسّست داخل مصفوفات مرتبطة بزمن محدد، ومؤشرات قياس، وآليات تنفيذ.

لقد حاول الرزاز أن يكون رجل الفكرة قبل أن يكون رجل المنصب، وأن يُدخل الدولة في زمن الإصلاح التدريجي المتماسك، بعيدًا عن الشعبوية أو التسرّع. ربما لم يُكتب له أن يُكمل مشروعه حتى نهايته، لكن من الإنصاف القول إنه ترك أثرًا فكريًا وإداريًا لا يمكن تجاهله. فالحكومات تمرّ، لكن بعض الرؤى تبقى، وبعض الأساليب تُرسّخ، وبعض التجارب تتحوّل إلى مرجع في كيفية التغيير المتّزن.

هكذا سيبقى اسم عمر الرزاز حاضرًا في الذاكرة السياسية الأردنية، لا كصاحب منصب عابر، بل كقائدٍ سعى إلى إعادة تعريف مفهوم الحكم الرشيد في زمن استثنائي، متمسّكًا بالعقل في مواجهة العاصفة، وبالنهج حين شحّت الأدوات، وبالثبات حين اهتزّت الأرض تحت أقدام العالم.

مواضيع قد تهمك