حسام الحوراني : الذكاء الاصطناعي والتحسين الفائق للتجربة الشخصية : عندما يعرفك الذكاء قبل أن تتكلم

في عصرٍ أصبحت فيه البيانات هي الذهب الجديد، لم يعد كافياً أن تُقدم الشركات خدمات «جيدة» أو «مناسبة» فحسب. بل باتت المنافسة الحقيقية تدور حول القدرة على فهم العميل على مستوى عميق، استباقي، ودقيق لدرجة تُشعره أن التجربة صُممت خصيصًا له. وهنا يدخل الذكاء الاصطناعي التوليدي، ليُحدث نقلة نوعية في عالم التفاعل بين الإنسان والتقنية، عبر مفهوم ثوري اسمه: التحسين الفائق للتجربة الشخصية (Hyper-Personalization).
ليس مجرد تسويق مخصص أو رسالة بريد إلكتروني تبدأ باسمك، بل نتحدث عن أنظمة ذكية تفهم سلوكك، عاداتك، نواياك، وحتى حالتك المزاجية، وتقوم بتعديل محتواها وخدماتها وتوصياتها وفقاً لذلك. هذا المفهوم بات يُعيد صياغة العلاقة بين الأفراد والتطبيقات، بين العملاء والعلامات التجارية، بل حتى بين المرضى والأطباء.
فكر في تجربة التسوق الإلكتروني: بينما كانت المواقع سابقًا تقترح لك المنتجات بناءً على ما اشتريته سابقًا، أصبحت اليوم تعرف متى تكون أكثر استعداداً للشراء، وتُحدد المنتجات التي تناسب ذوقك، وحالتك المالية، وأسلوب حياتك، وحتى توقيت تصفحك. كيف؟ عبر الدمج بين الذكاء الاصطناعي، البيانات الضخمة، وتقنيات التعلّم العميق التي ترصد كل نقرة، وكل تمرير، وكل تفاعل.
وتتجلى قوة التحسين الفائق في قطاعات متعددة، على رأسها الرعاية الصحية، حيث بدأت المستشفيات وشركات التأمين الصحي باستخدام الذكاء الاصطناعي لتحليل البيانات الطبية لكل مريض بشكل فردي، وتقديم خطط علاجية وغذائية ووقائية مخصصة حسب النمط الجيني، التاريخ المرضي، ونمط الحياة. هذا التحول لا يعني فقط رعاية صحية أفضل، بل أيضًا تقليلًا في النفقات، وزيادة الكفاءة.
أما في التعليم، فقد أصبح من الممكن اليوم بناء مسارات تعليمية مصممة لكل طالب على حدة. أدوات تعليمية ذكية تقوم بقياس مستوى الاستيعاب، وتعديل الأسئلة، وإعادة شرح المفاهيم بطرق مختلفة حتى يتأكد النظام أن الطالب قد فهم الدرس. هذا النوع من التعليم لا يرفع فقط من مستوى التحصيل، بل يعزز الثقة والارتباط بالعملية التعليمية.
ولا يتوقف الأمر هنا. حتى في القطاع الحكومي، بدأت بعض الدول المتقدمة باستخدام تجارب حكومية فائقة التخصيص، حيث يحصل المواطن على خدمات رقمية تتناسب مع موقعه الجغرافي، حالته الاجتماعية، المساعدات التي يحق له الحصول عليها، وأوقات تفضيله للتواصل. لقد تحولت الحكومة من كيان بيروقراطي ضخم، إلى مساعد رقمي يتحدث لغتك ويفهم احتياجاتك.
القوة الحقيقية وراء هذا التحول تكمن في نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدية مثل ChatGPT GeminiوClaude، التي تتعلم من تفاعلات المستخدم وتبني عليه. هذه النماذج لم تعد تتفاعل فقط، بل تتنبأ بما تريد، وتبني تجربة ديناميكية تتغير كل مرة وفقاً لتفاعلك.
لكن مع كل هذه الإمكانيات المبهرة، تبرز تساؤلات عميقة حول الخصوصية، والأمان، وحدود التدخل في حياة الأفراد. فحين تعرف الأنظمة الذكية أكثر مما تعرفه عن نفسك، كيف نضمن أنها لا تتجاوز الخط؟ كيف نضمن أن هذه التخصيصات لا تتحول إلى تلاعب أو استغلال؟
وهنا تظهر الحاجة الماسة إلى حوكمة الذكاء الاصطناعي، وإرساء قواعد شفافة لاستخدام البيانات، تضمن أن تبقى هذه التقنية في خدمة الإنسان، لا العكس. خصوصاً أن هناك خيطًا رفيعًا بين تخصيص التجربة وبين اختراق الخصوصية، وقد يؤدي الإفراط في التخصيص إلى خلق «فقاعات معرفية»، حيث لا يرى المستخدم إلا ما يُشبهه، مما يقلل من تنوع مصادر المعرفة ويؤثر على التفكير النقدي.
رغم ذلك، فإن فوائد التحسين الفائق لا يمكن إنكارها. تخيل أن يحصل المريض على تشخيص دقيق أسرع من أي طبيب، أو أن يجد الباحث مقالات وكتب تتوافق تمامًا مع اهتماماته العلمية، أو أن يحصل المواطن على خدمات حكومية دون الوقوف في طابور أو تعبئة عشرات النماذج، لأن النظام يعرفه مسبقاً ويقوم بكل ذلك آلياً.
اخيرا، الذكاء الاصطناعي لا يعيد فقط رسم حدود العلاقة بين الإنسان والآلة، بل يعيد تعريف معنى «التجربة الشخصية» نفسها. إنها تجربة تتطور كل ثانية، تتكيف معك، تكبر معك، وتعرفك أكثر مما كنت تتصور.التحسين الفائق ليس رفاهية، بل مستقبل التجربة الإنسانية في العالم الرقمي. ومن يدرك أهميته اليوم، سيكون في طليعة من يصنعون تجربة الغد.