بشار جرار : دائرة المعارف ووزارتها!

زيارة ترمب مهمة. موافقة حماس عمليا على توليه ملف اليوم التالي في غزة مهمة. حل حزب العمال الكردستاني وتخليه عن «كفاحه المسلح» مهم ومهم جدا تركيا وسوريا وعراقيا وإيرانيا. والقائمة تطول فتشمل موافقة زيلنسكي رضوخا لترمب على لقاء بوتين في اسطنبول بضيافة إردوغان، وكذلك هدنة التسعين يوما الجمركية بين واشنطن وبكين، ونزع فتيل حرب نووية في شبه الجزيرة الهندية. كلها أخبار هامة تتعدى العواجل، لكن تبقى أحوال الدار والديرة دائما هي الأهم.
أيام زمان، عرف عدد من الدول العربية «وزارة المعارف»، وكأن التربية فالتعليم أيامها، كانت تحصيلا حاصلا. وذلك عين الصواب، فلا يتحقق أي منهما ما لم يكن على يد الأم، والأب الذي أحسن اختيارها، ومن ثم رعايتها وما رزقهما الله من عيال. تلك نظرة قد يراها البعض تقليدية أو «رجعية». لكن «العيلة» أي الأسرة النووية والعشيرة لا تعني عالة بل أمانة ومكانة وعزوة.. تأبى النفوس الحرة أن تكون عالة ولا حتى على نفسها. إنْ هو إلا التوكل لا التواكل، والجد والعمل والمثابرة، أيهما يسبق الآخر؟ تلك مسألة فقهية ليس هذا مقامها ولا منبرها.
كما اتسعت دوائر اهتمامنا بالأخبار من حولنا بعد الفضائيات والمنصات، كذلك اتسعت دوائر معارفنا. قد ولّى زمن «دائرة المعارف البريطانية» الموسوعية! لمسة بل همسة عبر اللوح أو الهاتف الذكي كفيلة بتوظيف «إنساكلوبيديا بريتانكا» أو من بعدها «إنساكلوبيديا أمريكانا»، في خدمة طالب العلم. لا بل زاد الذكاء الاصطناعي في تحصيله المعرفي فضعف عند «الإيه آي» الطالب والمطلوب! صارت الهمسة -التكليف همسا- كفيلة بكتابة راوية وإخراج فيلم لا مجرد تغريدة «روبوتية» عنكبوتية عرمرمية خنفشارية، تكيد العِدا!
من يعتب على الذي يتابع أخبارا خارج دوائر معارفنا وديرتنا قد يكون من الأولى له معاتبة معارفه أو حتى نفسه عتاب محب. ليسأل ويتساءل، أولسنا من حددنا بأيدينا دوائر معارفنا فحصرنا أخبرنا -حصريا- في دائرة مغلقة أشبه ما تكون بتلك المسماة الدائرة الشريرة «فشس سيركل» أو الحلقة المفرغة، أو لعلها الدوامة اللوامة، فكلٌ يشير بأصابع الاتهام جزافا، يمينا وشمالا، وكأن العدو قد تخبّطه أو قعد له وربطه بـ «عَمَل أو رَصَد» كتلك الأخبار المزيفة الصفراء التي يتبادلها بعض الجهلة وتودي أحيانا بأرواح اللاهثين وراء كنز مزعوم، مرصود في المُغُر والوديان من أيام قدامى العثمانيين!
في برنامج «من يربح المليون» المعرّب من نسخته البريطانية الأصيلة ثمة خيارات أمام المسؤول المتسابق، لأن الثقافة في مجتمعها الأصلي -المملكة المتحدة- تقوم على فكرة وحرفة الاختيار بين بدائل. وتقوم أيضا على تربية تنمية القدرات الذاتية على المواءمة ما بين المجازفة المحسوبة لا التهور، وما بين ما قد يتعرض إليه الطامح أو الطامع بالمليون جنيه استرليني -لا ليرة تركية ولا (التومان، الريال والدينار) الإيراني- من إغراءات المضيف وتلاعبه بآراء جمهور الاستوديو، وحتى ذلك الخيار المتعلق بالاتصال بصديق والاستعانة به عليه يعرف أو يتوقع الجواب الصحيح!
هل لدينا في حياتنا اليومية، المهنية، الوطنية، الروحية أصدقاء نشاورهم ضمن دائرة منوعة ومتخصصة من المعارف، أم ندع أمرنا ومستقبلنا بيد مذيع يتلاعب بنا، أم نعمل بجد على توسعة دائرة أو دوائر معارفنا دون انتظار وزارة تتسمى بها؟ إن امتلكنا المعرفة، لا حاجة لشطب إجابتين معدتين سلفا، ولعرفنا المنتج الذي يأتي بمذيع أمام الأضواء تارة ويلقي به تارة أخرى خارج دائرة الضوء، ومن يشطب البرنامج من أساسه، استعدادا لدورة برامجية «مش حتغمّض عينك معاها»!
من الآخر، هذا هو القادم.. والخيار الأفضل لمن أحسن التواصل مع دائرة المعارف الحقيقية في حياته-المفعمة بالحياة والنعمة والبركة والخبرة والمعرفة الحقّة- هو الاستمتاع بالجلوس بأمان وسكينة وطمأنينة، في مقعد مريح أو على بساط أحمديّ، حيث «المَرْكا» العمّاني وقهوة «أرابيكا» وهيل النشامى، حيث لا خوف ولا قلق ولا حاجة لربط الأحزمة ولا شدها، ولا دعايات تعطل العرض الممتع المثمر، بعون الله. من قال إن سياسة النأي بالنفس لا تجدي وسط هذا الزحام والصخب؟ الفُرجة من بعيد فسحة واستراحة، إن لم نكن معنيين من الألف إلى الياء بالحكاية، تلك التي سموها «سردية» من سرديات العقد الثالث من الألفية الثالثة!