الأخبار

محمد داودية يكتب : شئ من الذكريات ...

محمد داودية يكتب : شئ من الذكريات ...
أخبارنا :  

محمد داودية :

* استقوى الملكُ الحسين بالمعارضةَ وطبّق معها فنًّ «توزيع الأدوار» !!

* عندما توارى "رجال الدولة" و فَجَر المأجورون !

* الأعلى صوتا و حِدّة في خطاباته وهتافاته، مدعاة شبهة !!

* "التنفيس" عِلمٌ ومؤسسة احترافية وفنٌ متكامل الأركان !!

(1)

و أفرق هنا بين المعارضة الحزبية الدستورية العريقة وبين حزب الكنبة وعدد من المعارضين الأفراد المزيفين ذوي الخطاب البائس الفقير الشتّام اللعّان الذي تعوزه الرفعة في القول وانعدام الحجة، الرخيصين المبتزين الذين يتم كراؤهم لبث السلبية والتشويه والأحباط والعدمية والسواد والانتقاص.

ومعلوم أن المعارضة الفردية التي بلا نسق ولا تنظيم، هي معارضة استعراض وتشويش آيلة إلى الفناء والانفثاء. فلا تترك الأجهزة الأمنية، معارضي بلدانها بلا رقابة و بلا ضبط. فالأجهزة الأمنية تمتلك قدرات متابعة فنية وتجربة عميقة وتراثا عريقا من ادوات الإحتواء وتحويل المعارض الصعب إلى مُنفِّس عذب !! و"التنفيس" علم ومهنية ومؤسسة احترافية وفن متكامل الأركان، حتى ان اجهزة التنفيس المحترفة، كثيرا ما تطلق الإشاعات والنكات والتعليقات ضد نظامها لامتصاص الاحتقانات المجتمعية !! ويستحيل ان تعمل «المعارضة الخارجية» دون أخذ الموافقة، من أجهزة الدولة الأمنية والسياسية، التي تعمل على أرضها. وتحتاج المعارضة بالتأكيد إلى نفقات، لأن معظم المعارضين ليسوا أثرياء. كما أن الأثرياء منهم، لا ينفقون من حر أموالهم على قضايا عامة !!. وهكذا تضطر المعارضة إلى «التنسيق والتعاون» مع الأجهزة الأجنبية.

المعارضة والموالاة، تقاليد وعراقة ومصالح ومنظومة وعمق وتراكم وعمل جماعي منظم طويل الأجل.

المعارضة الراشدة ضرورة وليست ضررا. وهي مصل ومضاد قانوني وأخلاقي ضد الفساد والإستبداد. ومن قال ان صناعة المعارضين والقادة وتخليقهم، تتم دائما في دوارق الشعب وفي أرحام النمو السياسية الطبيعية ؟

سياسيا، الصوت العالي لا يؤسس موقفا قابلا للنمو، و لا يؤثث خطابا وطنيا يجتمع الناس عليه. ولا يصلح حجة. وكنا نعتبر الأعلى صوتا والأكثر حدة في بياناته وخطاباته وهتافاته، مدعاة شبهة !!

أما الحطّ من قدر الوطن، والتنمر على مؤسساته، إذا لم يكن عملا تخريبيا، فإنه لن يكون عملا سياسيا وازنا. المعارضة الوطنية نسقٌ وبرنامجٌ وجهدٌ ونضالُ طلائع جماعي تراكمي شاقٌ طويلُ الأجل، يجيدها أولو العزم ذوو الخلق والتكوين الديمقراطي والقدرة على مشاق العمل الجماعي وأكلافه وقيوده، وسوى ذلك من معارضة أفراد، هي معارضة مايكروفونات وبيانات وعظية استاذية موقوتة، تغري صاحبها وتستدرجه إلى فخ الاستعراض الذي يستطيبه و «يسخسخ» عليه.

حضر شفيق الكمالي رئيس اتحاد الكتاب العرب، واضع النشيد الوطني العراقي «أرض الفراتين» انتخابات رابطة الكتاب الأردنيين في أواخر السبعينات، وبعد انتهاء عملية الفرز وفوزنا برئاسة الدكتور محمود السمرة، دعونا ضيفنا إلى عشاء في مطعم البستان، وهناك قال الرجل: لم أرَ أذكى منكم. لقد فرزتم واحدا منكم، ليلعب دور المعارضة في اجتماع الهيئة العامة اليوم.

قلنا له: ان المعارض الأهوج الذي تقصده هو ضدنا. ومن حظنا أنه على تلك الدرجة من الفعفطة والنطنطة.

ولأننا نعرف نظامنا السياسي، المشهود له بالكفاءة والحنكة والخبرة، فعلينا ان ندقق في «الشخصيات» الذين يعتلون صهوة المعارضة، ذوي الأصوات العالية والشعارات المدوية، لمعرفة من تم فرزه ليقوم بالدور.

و ما هو معلوم للسياسيين ذوي التجربة: أن المعارضة الفردية show

2

قال وهو يؤشر بسبابته الغليظة على كرسيه الوثير: أنتم تعارضون من أجل الوصول إلى هذا الكرسي !

قلت له: ولكنك تجلس على الكرسي بدون أن تكون معارضا !!

كنا نقف على مدخل قبة مجلس النواب استعدادا للدخول إلى الجلسة: طاهر المصري، عبد الرؤوف الروابدة، علي أبو الراغب، عوض خليفات، صالح رشيدات، عبد الرحيم العكور، مفلح الرحيمي وحمزة منصور.

كنت اقرأ مسودة بيان «لضب الشَّكَل وفض النشب»، الذي من المؤكد أن ينجم عن مناقشة عاصفة تدور حول تعرض النائب عبد المنعم أبو زنط للاعتداء في أحد المساجد.

انضم إلينا النائب إبراهيم زيد الكيلاني وزير الأوقاف في حكومة مضر بدران، فوجه لي كلامه مازحا قائلا: «أراك متنشطا أخي أبو عمر، ملحّق تصير وزير ؟!».

فرد عليه فورا سريع البديهة عبد الرؤوف الروابدة قائلا: لماذا تستكثر على الرجل ما ابحته لنفسك؟ انتم السابقون وهم اللاحقون.

الملاحظ ان بعض المواطنين يلجأون اليوم إلى التعميم واعتبار كل من تولى منصبا حكوميا، شخصا متهما فاسدا لصا حراميا مليارديرا. هكذا... "صَمْ لَمْ" ولكنهم يشيرون بالاحترام إلى شخصيات تولت مسؤوليات عامة كبرى مثل وصفي التل وهزاع المجالي وشفيق ارشيدات وأحمد الطراونة وعبد الوهاب المجالي ومحمد إسحق الفرحان وحكمت الساكت وأحمد عبيدات وعبد خلف داودية ومحمد عودة القرعان وسليمان عرار وإبراهيم الحباشنة وذوقان الهنداوي وعبد الله غوشة ومحمود السمرة وناصر الدين الأسد ومحمد أديب العامري وغيرهم عشرات المئات.

وبالتأكيد ليس كل مسؤول ووزير ملاكا نقيا عفيفا.

وعلى حد علمي، فإن أبناء الوطن الذين جاءوا من المعارضة قدموا نماذج استقامة تقتدى. وأنا لا أعرف منهم فاسدا.

واضرب أمثلة: خالد الكلالدة، مازن الساكت، عبد الله العكايلة، فارس النابلسي، عبد الكريم الدغمي، سمير حباشنة، مصطفى شنيكات، كمال ناصر، محمد فارس الطراونة، سليم الزعبي، بسام حدادين، موسى المعايطة، بسام العموش، حسين مجلي ومحمد العوران وغيرهم.

(3)

لا يوجد نظام سياسي في العالم، يبحث عن معارضة سياسية تنشر غسيله الوسخ وتشهّر به وتؤلب عليه وتفضح ممارساته وتصمه بما فيه وبما ليس فيه.

ولا توجد معارضة سياسية في العالم، تهوى المعتقلات والزنازين والتعذيب والمنع من العمل والمنع من السفر والمنع من احتلال المناصب اللائقة بها.

في حقبة الخمسينات والستينات كان برنامج (سي. آي. ايه) لمكافحة الشيوعية يدفع آلاف الدولارات، على كل ورقة استنكار لعضو من أعضاء الأحزاب الشيوعية. فكانت الأنظمة السياسية في العالم الثالث، تسعى للحصول على أوراق استنكار الحزب الشيوعي، من الشيوعيين ومن غير الشيوعيين!! لتحصل مقابل ذلك على ملايين الدولارات، وعلى سمعة انها تقف سدا منيعا ضد انتشار الأفكار الشيوعية.

لقد مارست المعارضة السياسية الأردنية نوعي المعارضة التقليديين:

المعارضة السرية الانقلابية «المسلحة وغير المسلحة»، المرتبطة بأنظمة حكم خارجية كسوريا والعراق وليبيا ومصر والاتحاد السوفياتي، التي عملت في صفوف القوات المسلحة، فاستدعت مقاومة استخبارية أردنية عنيفة، ومِن هنا يصدق القول على الأنظمة السياسية ان الرشد يقابله الرشد وان الدم يستسقي الدم. ورغم ذلك فقد تميزت مواجهة المعارضة الأردنية بأنها لم تَرقَ إلى حدود الاغتيالات والاعدامات والخطف والإخفاء والدهس بالخيل كما حصل لمئات المعارضين المصريين والعرب، وابرزهم الشيوعي المصري شهدي عطية الشافعي عام 1960، باستثناء حالة أردنية واحدة في تاريخنا السياسي مارسها خبير أمني ألماني طرده الملك الحسين بسببها، هي حالة الشيوعي الشركسي عبد الفتاح تولستان التي وقعت في 24 شباط 1962.

والمعارضة السياسية الثانية، هي المعارضة الحزبية الإصلاحية العلنية، التي رفعت شعار «اردن وطني ديمقراطي»، الذي نادى بعودة الحياة النيابية وإلغاء الاحكام العرفية وتشريع الأحزاب السياسية واطلاق الحريات العامة، بدل شعار المعارضة القديم العقيم الذي لا يمكن تحقيقه: «الإطاحة بنظام الحكم».

لقد انتقلت المعارضة السياسية الأردنية من «معارضة الحكم» إلى «معارضة الحكومات»، بهدي مناخ الإنفتاح والمصالحة، الذي كانت أول من دعت اليه في منتصف الثمانينات، منظمة الجبهة الديمقراطية في الأردن (مجد). وبهدي مؤثرات هبة نيسان 1989 وانتخاباتها. والمناخ الذي وفّره الميثاق الوطني عام 1991 بمشاركة أعضاء من الأحزاب المحظورة كالحزب الشيوعي ومجد وحزب الجبهة الشعبية والعديد من الشخصيات الوطنية.

(4)

لقد وفّر مناخُ المصالحة الوطنية دعما كبيرا للنظام السياسي، مكّنه من تحمل تبعات الضغط الهائل، الاقتصادي والسياسي، الذي نجم عن قرار الملك الحسين يرحمه الله بانحيازه الى الحل العربي- العربي، لتحقيق انسحاب العراق، بدلا من الانضواء في الحملة الامريكية ضد العراق، المشهورة باسم «حفر الباطن».

لقد سخّر الملكُ الحسين المعارضةَ الأردنية واستقوى بها، ومارس جدلية وتناوب «توزيع الأدوار» معها، بمهارة سياسية إبداعية لا تضاهى، خاصة مع تنظيم الإخوان المسلمين، مكنته من الحفاظ على جبهة داخلية متماسكة، رغم الأوضاع الاقتصادية المضطربة الناجمة عن الحصار الخانق الاقتصادي والسياسي المضروب على الأردن بصفته من «دول الضد».

في الحُكم وفي الشارع الأردنيين، رشدٌ بالغٌ يعتبر المعارضة موقفا اخلاقيا دستوريا حضاريا ثقافيا، من ضرورات الحكم الرشيد وأساسياته وبدهياته. ويعتبرها علامة كرامة ووعي وحيوية شعب. وفي السجل الوطني، ان المعارضين الأردنيين دفعوا ثمن قناعاتهم الباهظ، دون تردد وبإقدام ووعي. والملفت انهم رغم الاعتقال لم يصبحوا حاقدين على بلادهم:

يعقوب زيادين، عيسى مدانات، عبد الرحمن شقير، محمود الموسى العبيدات، حمدي مطر، عزمي الخواجا، عبد العزيز العطي، زياد أبو غنيمة، حمزة منصور، سالم النحاس، عبلة أبو علبة، عرفات الأشهب، تيسير الزبري، هاشم غرايبة، حمدان الهواري، ناهض حتر، ياسين الطراونة، عبد الله الهواري وميشيل وجميل النمري.

وكما انتقل معارضون إلى صفوف السلطة والموالاة، فقد انتقل موالون إلى صفوف المعارضة. وحالة مدير المخابرات الأسبق احمد عبيدات، نموذج على ذلك التحول وعلى القبول الشعبي به والموافقة على انتقاله.

لقد بدأ مبكرا، الانفتاحُ السياسي الأردني بين القصر والمعارضة. وتجلّى ذلك حين كلف الملك الحسين، ملك الحداثة والحكمة والحنكة، زعيمَ المعارضة السياسية المرحوم سليمان النابلسي، بتشكيل حكومة إئتلافية حزبية قومية ديمقراطية (تشرين الأول 1956- نيسان 1957)، ضمت «قرامي» رجالات الوطن والمعارضة من الضفتين، مثل شفيق رشيدات وعبد الحليم النمر وعبد الله الريماوي وأنور الخطيب ونعيم عبد الهادي وسمعان داود وصالح المجالي وصالح المعشر وعبد القادر الصالح.

وكما في الأردن، فقد تم الانفتاحُ والانفراج في المغرب، حين كلّف الملكُ الحسن الثاني يرحمه الله، المحامي عبد الرحمن اليوسفي، المعارض الاشتراكي، المحكوم بالإعدام برئاسة الحكومة (4 شباط 1998 - 9 تشرين الأول 2002)، في تجربة ثمينة تبعها لاحقا اغلاق ملف «سنوات الرصاص» بين العرش والمعارضة، برئاسة الصديق سي إدريس الضحّاك، من خلال هيئة الإنصاف والمصالحة، التي أعطت فرصة لضحايا الانتهاكات للتعبير على شاشة التلفزيون والإذاعة المغربية عما تعرضوا له من تنكيل وتعذيب وإهدار للكرامة، وما تعرض له ذووهم من أضرار جسيمة مادية ومعنوية، في الفترة من 1956 إلى الفترة 1999.

مواضيع قد تهمك