الأخبار

محمد داودية في سيرةٍ مثيرة من الكسّارة إلى الوزارة

محمد داودية في سيرةٍ مثيرة من الكسّارة إلى الوزارة
أخبارنا :  

ابراهيم خليل :

لا أنكر أنني تواصلت مع هذه المذكرات أياما لا أمل القراءة، وبي لهفة وتوق لمتابعة هذه الومضات التي تجمع بين حديث الذكريات، والتوقف عند بعض التجارب التي تغدو مع الأيام دروسا مستعادة، وعظاتٍ مستفادة، يقبل عليها القراء في كل حين، ويتداولها الشداة على مرّ السنين.. فأبو عمر ـ كاتب هذه السيرة ـ الباعثُ من صدره بفيض الخاطر، والذارف من مآقيه الدمع السخين المائر، لا يألو جهده في تنضيد هذه اللواعج، دون أن يغفل عما مرّ به من مباهج، فيحدثنا حديث القلب للقلب عما ذاقه في طفولته من معاناة وحرمان، وما لقيه في صباه الأسيان، من مكابدة، ومن مجالدة، مع تكاليف الحياة، بعد أن رماه الدهر باليُتم، وقسا عليه الزمان بالفقر والعُدْم، فكان عليه ـ مكرها لا بطلا – أن يعيل نفسه بنفسه، وأن يعيل إلى جانب ذاته أمه وإخوته، وأن يصل الليل بالنهار، عاملا في مطعم تارة، وفي محجر تارة، وفي مقهى تارة أخرى. إلى أن رأف به الزمان فعُيّن معلما منفردا في بعض القرى، فكان فيها المدرس والمربي والآذن وحارس المدرسة، وهو الذي يقوم مع هذا وذاك بما يتطلبه البيت من أعمال بدءا بغسيل الملابس، وتحضير الأطعمة، ومرورا بتنظيف غرف الصف والمنامة. ويستطيع القارئ أن يعثر في هذا الكتاب على نموذج صارم للمدرس في ستينيات القرن الماضي، لاسيما في هاتيك المدارس التي كتب على تلاميذها، ومعلميها، أن يعانوا مثل هذا الوضع المُحزن.
ولا يفتأ المؤلف يتنقل بنا من مكان لآخر عبر البادية، في الشمال تارة، في المفرق والفدين والرويشد والزرقاء، وفي الجنوب طورا؛ في الطفيلة وفي معان وفي وادي موسى وفي الشوبك، ملما بالأوضاع الاجتماعية والطبقية، وحتى بالوضع الحياتي اليومي للأكثرية الصامتة المسحوقة في الجنوب، وهي التي لم تحظ من الحكومات الأردنية المتعاقبة إلا بالإهمال، وباللامبالاة. ومذكرات داودية في هذه الأمكنة، وفي تلك الأثناء، ترسم لنا أجواء مؤسفة عن معاناة الناس، وعن الضيق، والضَنَكِ الذي اتصفت حياتهم به، في حين كان الآخرون يرتعون بما أتيح لهم من أعطياتٍ ومُنح وامتيازات.


ا

ابراهيم خليل

رب ضارة مفيدة

ومثلما تقول الأمثال لا بد للحزين الكئيب من يوم يفرح فيه فرحا يغسل بحلاوته مرارة الماضي. فقد أتاحت له الظروف، في ما يروي لنا من أحداث، أن يتحول من معلم يعاني من نضوب الراتب في العشر الأوائل من الشهر، إلى صحافي ملتزم في غير جريدة، فهو في «الأخبار» ثم في «صوت الشعب» ثم في «الدستور» ثم كاتبا في عدد من الصحف، ومنها «الزمان» ومدير تحرير لمجلة أسبوعية. وعلى هذا النحو غدا في وقت قصير صحافيا محترفا، وكاتب عمود يومي لامعا، ونجما إعلاميا ساطعا، وحظي بعلاوات تضاعف فيها راتبة مرارا لرضا أرباب العمل من أمثال فؤاد النمري، وإبراهيم سكجها، وطارق مصاروة، وآخرين، عنه. ولم تكن عيناهُ بعيدتين عن نقابة الصحافيين التي رشح نفسه ليكون نقيبا لها، غير أن حساده أشاعوا عنه الكثير من الأكاذيب، فلم يحالفه الحظ من هذه الزاوية. وربَّ قائل يقول: أليست هذه الضارة مما انتفع به أبو عمر داودية. على الرغم من أنّ الأمثال لا تصدق عادة، إلا أنها في هذه المرة، ومع داودية، صدقت صدقا لا ينكرهُ إلا جاحد، ولا يأباه إلا معاند، فقد ابتسم له الحظ عندما دعاه الحسين بن طلال بعد تلك الانتخابات ليكون المدير الإعلامي في الديوان الملكي.. وبهذه الخطوة يبدأ نجمه في الصعود بعد أن زايلته النحوس التي لازمته منذ نعومة أظفاره.

يستطيع القارئ أن يعثر في هذا الكتاب على نموذج صارم للمدرس في ستينيات القرن الماضي، لاسيما في هاتيك المدارس التي كتب على تلاميذها، ومعلميها، أن يعانوا مثل هذا الوضع المُحزن.

مع غسان كنفاني

تعدَّدت الوظائف والمناصب التي تقلدها بعد ذلك، فهو سفير في المغرب تارة، وفي اليونان تارة، وفي ماليزيا تارة أخرى. فوزير للشباب، فوزير للتنمية الإدارية والسياسية، فوزير للزراعة، فرئيس لمجلس إدارة الدستور، وهذا المسار الحافل بالإنجازات، والمسرات، لم يخل في الواقع من منغّصات تهبُّ عليه من هذه الجهة أو تلك، فقد لاحقته شائعات المغرضين، ممن رموه بالإقليمية تارة، وبالقرب من الإخوان تارة، وبممالأة الفلسطينيّين تارة. والحق، أنه مثلما يذكر في سيرته، كان ـ وما يزال – شديد التعلق بفلسطين، وقد انتسب للجبهة الشعبية متأثرا برواية «رجال في الشمس» لغسان كنفاني. وأصبح من قراء «الهدف» التي بدأت الصدور عام 1969 ثم إنه زار بيروت، والتقى بصديقه ورفيقه ميشيل النمري، وقرأ الفاتحة على قبر غسان كنفاني، وخاض الكثير من السجالات مع الديمقراطية (حشد) وعلى الدوام لم تخلُ وقائع هذه المذكرات من مواقف تنمُّ عن صدق انتمائه القومي، وعنوانه التعلق بفلسطين قضية وشعبا. على أنّ العبرة في مثل هذه الأمور في المآلات. وهو لا يفتأ يلحّ على موقفه هذا على الرغم من أن بعض حساده نجحوا في إبعاده مثلا عن رئاسة إدارة الرأي، ونجحوا في خذلانه في الانتخابات النيابية عندما رشح نفسه لدورة أخرى. ونجحوا بديماغوجيتهم باستبعاده عن منصب نقيب الصحافيّين. ومع هذا كله كأنَّ داودية في مروياته يقول لهؤلاء «يا جبل ما يهزك ريح».
هذا ما يريده المؤلف من هذا الكتاب، ولا يريد فيه أن يُفهم القراء أنه شاعر رقيق، أو ناثر أنيق، ذو قلم رشيق، فقد نحا في هذا الكتاب منحى الصحافي الذي كان، يعبر عن الفكرة بالكلمات المألوفة المعبّرة، ويسبك التعبير بما في البساطة من عمق، وما في السلاسة والسهولة من قوة المعنى. غايته اجتذاب القارئ الشغوف بما في مروياته من حكايات شيقة حينا، ومسلية في أحايين أخرى، وناقدة جارحة تذر الملح على الجراح في أحايين أُخر. وهذا يفسر تنقله من حكاية لأخرى. فبين الذكرى والذكرى تظهر حكاية جديدة لا يتوقع القارئ ظهورها في هذا السياق أو ذاك. وكان المتقدمون من أهل البصر والبصيرة في الأدب، شعره ونثره، يستحسنون مثل هذا الاستطراد؛ كونه ضربا من الترفيه عن القارئ، واستبعادا للرتابة والسأم. فلو نسج المؤلف هذه المذكرات في نسق مترابط متساوق من البدء للختام، فقد يُرضي بذلك المتنطعين من ذوي العناية بالسير والتراجم الذاتية، غير أنه باتباعه هذا الأسلوب يُرضي القراء على العموم، ويفصح عما في صدره من الهموم، فعلى سبيل المثال حكاية ابنته عدن التي تمثل دور الأستاذة وهي تهدد الطلبة الذين يكبرونها بالعصا، حكاية مسلية تتوسط سلسلة من الذكريات المتباينة، والمشهد العاطفي المؤلم، لوفاة الأم، ينقلنا من واقع المؤلف الفرح بمنصب السفير إلى حقيقة الابن الباكي، وقد سبقه الموت بأربع ساعات حالت بينه وبين إلقاء النظرة الأخيرة على (ست الحبايب). وما صاحَبَ حكاية الحرارة المرتفعة التي أصيب بها عمر، ابن السنوات الست، والخدمات الطبية، وانقشاع الحرارة فجأة دون تفسير، حكاية أخرى تثير لدى القارئ تساؤلاتٍ وتساؤلات. ومن أفضل هذه الحكايات التي طرأت على النسق حكاية السفير الليبي صلاح الدين البيشاري في جاكارتا، ذلك السفير الذي انشقَّ على حكومة القذافي، ورفضه التبرع السخي من بعض السفراء العرب أنفة منه وكبرياء، فهي حكاية أخرى تقدم للقارئ نموذجا للوطني الذي يتمسك بشهامته وكرامته، حتى اللحظة الأخيرة.
والذكرياتُ، كما هي العادة، تحفل بالحلوة والمرة، وهذا الكتابُ، بشقيه الحلو والمر، صيغ صياغة لا هي أدبيّة محض، ولا هي صحافية تماما، فالقارئ المتمرّس بقراءة السير، والمذكرات، لن يفوته الاستمتاع بالمحتوى. فالقالبُ هو مُحتوى هذه الذكريات، ولا موضع فيها للزعم بأن الشكل يخدُش صفاءَها الموضوعي، كما لا موضع فيها للقول إنَّ الشكل الذي صيغت فيه شكلٌ متينٌ، لكنّ المضمون ليس بمتانةِ القالب. وأيا كان الأمر، نستطيع القول: إنّ كتاب داودية، ومذكراتِه هذه، شهادةٌ مُسْتلةٌ من الواقع، وليس فيها شيءٌ من صنع الخيال، أو افتعال المؤلف الكاتب، فصدقُ مرويّاته لا يحتاج إلى دليل، بل هو دليلٌ على دليل. ــ القدس العربي

ناقد وأكاديمي من الأردن

مواضيع قد تهمك