الأخبار

كازاخستان و (30) عاماً من الجهود لإنقاذ العالم من التجارب والأسلحة النووية (1)

كازاخستان و (30) عاماً من الجهود لإنقاذ العالم من التجارب والأسلحة النووية (1)
أخبارنا :  

 سيميبالاتينسك / كازاخستان : بقلم المستشار محمد الملكاوي / رئيس التحرير "جوهرة العرب"


المقدمة لم يَدُرْ في خاطري يوماً أني قد أكون أول صحفي أردني يعمل في الأعلام الأردني سيزور أحد أكبر مناطق إجراء التجارب النووية في العالم الموجودة في جمهورية كازاخستان، بعد القرار الجرئ للرئيس الأول الكازاخي نور سلطان نزارباييف قبل (30) عاماً بالتخلي طواعية عن رابع أكبر ترسانة نووية تدميرية في العالم ورثتها جمهوريته عن الاتحاد السوفيتي الذي انهار عام 1991 وإغلاق أكبر موقع للتجارب النووية في مدينة "سيميبالاتينسك" الكازاخية التي شهدت إجراء (450) تجربة نووية عانى منها ما يزيد على (1.5) مليون مواطن كازاخي بين موت وتشوهات وأمراض ومعاناة طويلة، هذا علاوة على تدمير الحياة الطبيعية والبيئة بمختلف أنواعها في منطقة إجراء التجارب النووية والمناطق المحيطة بها. ·جرأة كازاخستان بالتخلي عن ترسانة رابع أكبر قوة نووية في العالم وما أن توقفت عجلات القطار بعد (10) ساعات من المسير المتواصل ليلاً بين العاصمة نور سلطان ومدينة كورتشاتوف حتى بدأت أستحضر في مخيلتي الشرق أوسطية تلك الشجاعة لدولة بحجم كازاخستان التي تعتبر تاسع أكبر دولة في العالم من حيث المساحة وأكبر بلد في العالم لا يجاور المحيطات، وتمتلك رابع أكبر ترسانة أسلحة نووية في العالم وتتخذ قراراً استراتيجياً للاتجاه نحو السلام والأمن والاستقرار ليس فقط في آسيا الوسطى وإنما على مستوى العالم أجمع. ولكني عدت فوراً من تشتت مخيلتي إلى الواقع الحقيقي لهذه الدولة التي تفخر بأنه يتعايش على أرضها ما يزيد على (130) قومية وجماعة عِرقية، وأنها ملتقى للكثير من الحضارات والثقافات الإنسانية التي يوثقها أكثر من (9) آلآف معلمٍ أثري وثقافي وسياحي. ·كازاخستان لا تنشد إلا السلام والأمن والعِلم الذي يحمي الإنسان فدولة تمتلك ما يزيد على (7) آلاف بحيرة وغابات كثيفة وجبال شاهقة وسهول ممتدة وسهوب مترامية الأطراف، ويعيش فيها ما يزيد على (2000) نوع من الأحياء البحرية وأكثر من (1300) نوعٍ من الزهور، وتعتز بإرث فروسيتها وفرسانها وخيولها الأصيلة ووعولها وثلجها وجليدها وأمطارها الغزيرة هي دولة سلام وتسامح ومحبة تضم على أرض مساحتها حوالي (2.7) مليون كيلو مترٍ مربعٍ حوالي (19) مليون مواطن كازخي ينشدون السلام والمحبة، لهذا كان أهم قرار تاريخي عند استقلالها عام 1991 هو التخلص من ترسانة الأسلحة النووية ووقف التجارب النووية، لا بل إن الرئيس نور سلطان نزارباييف اقترح على الأمم المتحدة اعتبار 29 آب / أغسطس الذي تم فيه إغلاق أكبر موقع لإجراء التجارب النووية عام 1991 يوماً عالمياً لمناهضة التجارب النووية، وجرى تنظيم أول احتفال بهذه المناسبة عام 2010. ·كازاخستان تحدث مراحل الظلام وكوني أحد أعضاء وفد إعلامي دولي تمت دعوته مؤخراً على مدار أسبوع للاطلاع على الجهود التي تبذلها جمهورية كازاخستان لحماية العالم من مخاطر التجارب والأسلحة النووية فقد أحسست وأنا في الحافلة (الباص) خلال طريقنا الترابي الطويل للوصول إلى مكان إجراء التجارب النووية في سيميبالاتينسك بأن هذه الدولة التي تتخذ من النسر الذهبي شعاراً لها عصية على الانكسار والهزيمة والفشل، لا بل إنها اتخذت أجرأ قرار في العالم من موقع قوةٍ لا موقع ضعفٍ للتخلي عن التجارب والأسلحة النووية مما جعلها رائدة في الحِراك العالمي في التصدي للتجارب والأسلحة النووية، لهذا كنت أرى صلابة وقوّة شعب كازاخستان في كلّ زهرة تحيط بالمباني التي صممت لتراقب التفجيرات النووية، وفي عزيمة كل طائر يتنقل بين هذه المباني، لا بل إن الأعشاب صنعت على أرض تلك المنطقة سجادة مخملية باللون الأخضر الممهور بألوان الورد التي تتمايل فرحاً مع كلّ نسمة تتصدى وتتحدى الإشعاعات النووية القاتلة التي فُرضت عنوة على دولة وشعب كازاخستان في مراحل مظلمة خلال فترة الحرب الباردة بين التحالفات العسكرية القاتلة بين الشرق والغرب. ·450 تجربة نووية في كازاخستان وحدها خلال العهد السوفيتي ولكني لا أستطيع أن أغفل بأني كنت استمع بين الفترة والأخرى إلى صدى صراخ أطفال وأمهات وكهول ومرضى وبشر أبرياء يأتي من الأفق بعيد، ومن حيث عُمق الأرض المكلومة كلما انتقل الباص بنا على الطريق الترابي المُتعرّج من محطة مراقبة للتفجيرات النووية إلى أخرى، خاصة وأن ما يزيد على مليون ونصف المليون إنسان كازخي قد تأثروا بتفجيرات التجارب النووية ال (450) موتاً أو مرضاً أو تشوهاً أو معاناة نفسية وجسدية، لدرجة أني لمحت أطياف الكثيرين ممن تضرروا خلال دخولي لبعض غرف محطات المراقبة، وكأنهم يقولوا للعالم: (كفى عبثاً بحياة الأبرياء جرّاء التجارب والأسلحة النووية). ·الشاعر الكازاخي آباي ينتفض من تحت الأرض وما بين الصراخ والألم بين محطات مراقبة التجارب النووية التي تشكل أمامنا سلسلة طويلة من الشواهد الحيّة على حقبة مظلمة من العهد النووي يترآى لنا الشاعر الكازخي آباي (إبراهيم) قونانباي في ملحمته الشعرية الاسكندر المقدوني التي يرفض فيها الغزو والغازي والمُحتل والاحتلال ويهزم كل ذلك بالحِكمة والشجاعة والجرأة. لهذا كان الرئيس الأول نزارباييف يرى في (آباي) مُلهماً لشعب الكازاخ الذي جمع ما بين فروسية الأرض على متن الخيول، وفروسية السماء على أجنحة النسر الذهبي الكازخي الذي يرفض الخنوع أو الخضوع للعدو والغازي والمُحتل، حتى لو تسلل عبر أعماق الأرض بواسطة أخاديد وكهوفٍ مليئة باليورانيوم والأسلحة النووية والإشعاعات القاتلة التي دفع ثمنها مليوناً ونصف المليون من شعب الكازاخ، الذي يفخر بالسيف والخيل لأنها أصل الشجاعة والجرأة والبطولة، ويرفض في المقابل كل أسلحة القتل والدم والموت وتدمير البشرية بما فيه النووية. ·بصيص أمل كازاخي وقبل أن أغادر موقع إجراء التجارب النووية أحببت أن أرى من على قُرب ماذا كان يجري داخل غُرف إحدى محطات المراقبة، التي بُنيت عام 1945 وتم إجراء أو تجربة فيها عام 1949 فلاحظت كآبة جدرانها التي صمدت أمام التجارب النووية، وقرأت على جدرانها سطوراً غير مرئية عن فضائع هذه التجارب المميتة، والتي أبرزها الوِحدة القاتلة في أرضٍ معزولة ومنطقة منبوذة بسبب إساءة استخدامها في مرحلة من المراحل بتجارب نووية تهدف إلى تدمير البشرية وليس لإحيائها. ولكني وجدت من نافذة هذه النافذة بصيص أمل في مستقبل مشرق وواعد بعد أن وضعت كازاخستان العربة على الطريق الصحيح. ·تذكير كازاخي دائم لي ولكن قبل أن أغادر تلك الغرفة غير المرتفعة وأصعد للأعلى بمستوى الأرض ارتطم رأسي بحافة مدخل الباب وكأنها إشارة من محطة المراقبة تلك بأن لا أنسى كإعلامي أن واجبي مقدس في مواصلة التصدي للتجارب والأسلحة النووية التي أصبحت كازاخستان عاصمة التحدي الحالي والأمل المُستقبل نحو عالمٍ خالٍ من الأسلحة النووية. ·المركز الوطني النووي الكازاخي ولكن حتى تكتمل الصورة لنا كصحفيين وإعلاميين كان لا بد من زيارة المركز النووي الوطني في مدينة كورتشاتوف أولاً وهي المنطقة الأقرب للمكان الذي تم فيه أجراء التجارب النووية على أرض كازاخستان خلال الحقبة السوفيتية، والذي يروي كافة القصص عن الرعب النووي المميت، الذي أسدلت كازاخستان ستاره عام 1991. ·كازاخستان تريد الحياة وليس الموت وأول ما شاهدت عند دخول المركز النووي الوطني الكازاخي تلك الواجهة التي يتساقط منها الماء من أعلى إلى أسفل، وكأن قطرات الماء تقول لِمن يزور المركز: (وجعلنا من الماء كل شئ حي)، وهذا تأكيد على أن رفض جمهورية كازاخستان لرابع أكبر ترسانة نووية في العالم يعني بأنها دولة تريد الحياة ليس فقط لشعبها وشعوب المنطقة وإنما لكل شعوب العالم. ·كوستانتين رفيق رحلتنا الميدانية ولا أدري كيف تأثرت بالمهندس توميلوف كوستانتين الذي رافقنا في الجولة الميدانية داخل المركز النووي الوطني وفي منطقة إجراء التجارب النووية وفي جولة البحيرة الذرية التي سأتحدث عنها في الحلقة القادمة إن شاء الله، ومعه نخبة من العلماء والمسؤولين في مقدمتهم نائب مدير عام المركز سيرجي أناتوليفيتش بيريزين الذين كانوا يتحدثوا براحة ضمير بأن كازاخستان قد حرّكت ضمير العالم عندما أعلنت رفضها للتجارب والأسلحة النووية وتخليها عن ترسانتها. ·الهاتف القاتل وفي لحظة صمت ورهبة وجدت نفسي أجلس بهدوء على كرسي جهاز مرتبط فيه هاتف قديم جداً، لأكتشف بأن هذا الهاتف البدائي مقارنة مع الهاتف الخلوي المتطور الذي أحمله يومذاك كان هاتفاً خطيراً رغم بدائيته وذلك لأنه مخصص لإعلان الحرب والقتل والدمار بإطلاق الأسلحة النووية أو إعطاء الأمر لإجراء التجارب النووية. لهذا ورغم الفارق بين الهاتفين إلا أن الهاتف البدائي الأول هو الأقوى والأخطر حتى وإن لم يكن من نظام الجيل الرابع أو الخامس (4G or 5G) وليس مرتبطاً بالأقمار الصناعية ونظام (GPS) ولا يحتوي أيضاً على إنترنت لاسلكي (واي فاي Wi-Fi) ولا ذاكرة (4 تيرا 4 Tera) أو أكثر من ذلك. والسبب أن ذلك الهاتف البدائي مخصص فقط لمهمة واحدة وهي الإطلاق. إطلاق الأوامر للبدء بالتجارب النووية، أو إصدار الأوامر لإطلاق العنان للصواريخ النووية العابرة للقارات والمحيطات لتقتل وتدمر فقط. ·التجارب النووية من السرّية إلى العلن وقد حاول المهندس كونستانيتن جاهداً أن يجمعنا معنا في حلقة واحدة للاستماع له إلا أنه لم يستطع لأن كل ما هو موجود في متحف المركز النووي الوطني في كورتشاتوف خطف أنظار الصحفيين والإعلاميين الذين تبعثروا وهم يشاهدوا بالعين المجرد كل أدوات وأسلحة الدمار النووية التي كانت تقبع ردحاً من الزمن في غياهب السرية الموصدة بكل الأقفال، ولم يكن يطلع عليها سوى القليل القليل من العلماء النووين والمسؤولين خشية أن تتسرب المعلومات السرية الخطيرة إلى الأطراف المعادية التي جندت حينها دون شك الجواسيس لمحاولة اقتحام سرية وأقفال مثل هذه الأجهزة في المختبرات ومراكز البحوث والدراسات ومحطات المراقبة ومراكز إجراء التجارب النووية وغيرها. ·تحية للرئيس الأول نور سلطان نزارباييف الذي انحاز للسلام لا أستطيع كإعلامي إلا أن أحيي وأشيد بقرار الرئيس الأول لجمهورية كازاخستان نور سلطان نزارباييف الذي انحاز للسلام وجعل من دولته عاصمة عالمية لتحرير العالم من التجارب والأسلحة النووية، ووجه كل طاقاته وقدراته وإمكانيات وكفاءات وخبرات كازاخستان نحو بناء دولة سلام واستقرار وتعايش وتسامح، وتوجيه الشعب الكازخي نحو العِلم في المدارس والجامعات والعمل المخلص لجعل كازاخستان وطناً عالمياً للأمل لأجيال قادمة تريد أن تعيش بأمان على الكرة الأرضية بعيداً عن شبح مخاطر التجارب والحروب النووية. ·وختاماً شكري موصول للسفارة الكازاخستانية في الأردن وحرص السفير آيداربيك توماتوف على أن يكون الإعلام الأردني شريكاً وحاضراً مع الإعلام الدولي في الجهود الكازاخستانية للتصدي للتجارب والأسلحة النووية. وأيضاً شكري لطاقم السفارة في عمّان وفي مقدمتهم المستشار الثقافي جينيس توريكوف وفريق وزارة الخارجية الكازاخستانية وفي مقدمتهم رئيس الفريق تاير بيتنباييف. وأسعدني أن أتشارك هذه المهمة مع إعلاميين أردنيين وعرب وفي مقدمتهم الزميل منذر الزغول ناشر موقع عجلون نيوز والمصور عامر الزغول في عجلون نيوز. وكذلك الزميل الدكتور عبدالرحيم عبدالواحد رئيس موقع ميديا هب (Media Hub) في دبي والزميلة سميرة فريمش من صحيفة النهار الكويتية والزميلان ماهر الملاح وأحمد من وكالة الأنباء الإماراتية (وام) ·الحلقة القادمة (في الحلقة القادمة بإذن الله سأتناول عودة الحياة تدريجياً إلى البحيرة الذرية القريبة من مدينة (سيمي) وكيف أن فراشة واحدة هزمت كل تجارب الاتحاد السوفييتي النووية في كازاخستان، وكيف أن عصفورين عبثا بكل أسرار التجارب النووية) .

مواضيع قد تهمك