الأخبار

داودية : ذكريات و عِظات -17-

داودية : ذكريات و عِظات 17
أخبارنا :  

محمد داودية :


لا يقف حاجزٌ أو عائق أو مانع، أمامَ عزم الإنسان، وطموحه وتصميمه وكفاحه، مهما كان صغيرا أو فقيرا او وحيدا أو مريضا أو ذا عاهة.

الإنسان الإيجابي، ذو العزم، المؤمن بالله ينهض دائما. يواصل التعثر فيواصل النهوض، ما دام النفَسُ يتردد في صدره.

و ما ينطبق على الإنسان، ينطبق على الشعوب والدول تمام الانطباق.

كانت الوالدة تهزني وتوقظني كل يوم، في أول شقشقة الفجر، وغبشُ الليل ما يزال كثيفا، من اجل الذهاب إلى العمل في كسّارة النبر.

يا إلهي !

أو تدرون ما الكسارة، التي سأترك فراشي وأحلام الفجر اللذيذة وخدره، من أجل لهبها وحرّها وغبارها ؟!

كنت أتمنى لو أنني أموت في تلك اللحظات القاتلة من العطل الصيفية في مطلع الستينات. كنت أقول لأمي لو أنني أموت وأخلص من هذه الحياة !!

لكنني آخذ في التنبه والاستيقاظ والعودة إلى الواقع الصلب شيئا فشيئا، كما يعود المريض من البنج.

وحين كنت استرق النظر إلى والدتي، التي لو تمكنت لأغرقتني في العسل والكسل، كنت المح دموعَها على رموش عينيها، فأتشجع وأنهضُ قاطعا مع الكسل والتردد.


******

كان مجمع ألـ I.P.C السكني في بلدة الاجفور- الرويشد، حيث ولدت، على حافة الحدود الأردنية العراقية، الذي يديره الإنكليز، قطعة من بريطانيا.

بيوت مصممة على الطراز البريطاني وشوارع فسيحة تخترق الكامب، مضاءة بالفوانيس، معبدة ومزروعة بالكثير من شجر النخيل والكينيا والخروب والورد الجوري و فم السمكة.

كان في الكامب فرع للسوبر ماركت الشهير «السبنيس» وسينما مجانية ومستوصف مزود بكل ما يحتاجه من أطباء وممرضات وأسرّة وعلاجات وسيارات اسعاف.

وكانت في الكامب مدرسة نموذجية تدرّسنا فيها مجموعةٌ كبيرة من المعلمات، اذكر منهن مس مريم، المديرة السمراء ذات الكشرة، التي كانت تضع أحمر شفاه غامقا، ولا تكف عن إصدار الأوامر والنواهي والزواجر وإمساكنا من آذاننا وسحبنا الى غرفة الإدارة للحساب والعقاب الناعمين.

ومس إديل عويس من عجلون، الآنسة بالغة اللطف التي كنا نلوذ بها ونستنجد بلطفها، ليكون عقاب مديرتنا خفيفا او ليكون تنبيها: ما تعيدوها مرة ثانية.

ومس نجلاء الأربعينية كثيرة التأمل والسَّرَحان، ذات القوام المربوع والأسنان البارزة.

كان يجلس الى جواري في تلك المدرسة الناعمة المرفهة في الإجفور، ألحسِني محمد مقبل مسلم العموش، اللطيف الأنيس الودود، الذي ما أزال على صلة متقطعة معه إلى اليوم. وأخي في الرضاعة، العقباوي عيد غنام الفيومي ابن الحويطية سالمة مسلّم العواسا النجادا، التي شاركتُ طفلَها عيداً حليبَه، عندما أصابت حمّى النِّفاس والدتي. فوهبني الله أُمّا رؤوما وأخا غاليا، ما أزال ارتبط بأزهى الروابط مع أسرته ومع نجله النشمي الكريم فارس، الذي أزوره كلما زرت العقبة.

وكان معنا في الصف، أربع صبايا !! كانت إحداهن واسمها فاطمة، السميراء الجذابة، تميل إلى محمد مقبل العموش وتجهد كي تظل قريبة منه في الصف وفي ساحة المدرسة.

وكانت سميرة المربوعة البضّة البيضاء، تجلس الى جانبي وتتقرب مني في الفرصة التي بين الحصص، تعطيني قضمة من ساندويشتها التي تتكون من البيض المسلوق او من المربى والزبدة او من الزيت والزيتون، فأعطيها في المقابل علكة السهم او حبة حلوى او قطعة شوكولاتة.

وكنت لا أبخل عليها بجواب على سؤال حساب عندما أراها تتلبك محاولةً حلَّه. أما فتاةُ أخي عيد فكانت الأكثر شقاوة وحركة وصخبا.

كان يوجد في المجمع السكني الفسيح المنظم، ذي الشوارع المضاءة والجُزُر الوسطية، ملاعبُ كرة قدم وقاعة مغطاة تضم ملاعب سكواش وكرة يد وكرة سلة وبركة سباحة مغطاة وأخرى مكشوفة ومكتبة أطفال ومكتبة كبار و"ميز" ومقهى.

كان كل ذلك الرفاه متوفرا لنا مجانا.

وكانت الحياة الاجتماعية راقية تتخللها الحفلات والمباريات والموسيقى والمسابقات وموائد الأطعمة المشتركة و"الباربكيو" أيام العطل.

كانت سيارات «الجيب اللاندروفر» الخاصة بالشركة، تمر على منازلنا كل يوم، توزع قوالب الثلج مجانا على الأهالي، إذ لم تكن الثلاجات موجودة بعد.

كان السائقون يضعون قوالب الثلج في الزير وفي الجِرار الموجودة تحت مظلة الباب.

وكانت تلك السيارات توزع، شبه اسبوعي وحسب الموسم، الخضار والفواكه والبيض والبط والأرانب المسلوخة. وكانت توزع أحيانا قطعا من لحوم الغزلان والإبل والخراف والبقر.


*****

من هذه البقعة الفردوسية، ومن هذا النعيم الخرافي، الذي لم يَنعَم بمثله طفلٌ غيري في العالم، امتدت يد عملاقة هوجاء واقتلعتني. طوحتني بعيدا خارج ذاك النعيم والفردوس الأرضي النادر.

كنت حزينا وعاتبا وذاهلا لسنوات، إلى أن عرفت أن في الدنيا نعيما وجحيما.

واستخدمت قاعدة ظلت تمدني بالامل والطاقة الايجابية وهي:

"مادام ان النعيم لا يدوم، فلماذا سيدوم الجحيم" ؟!!

اما القاعدة الاخرى فهي: " عليك أيها الفتي ان تحمل فأسك وتشق طريقك.

فدائما ثمة طريق يجب شقّها وتعبيدها.

وكلما غابت، اتذكر اننا عبّدنا طريق المفرق- المنشية (اتيت على ذكرها هنا يوم امس).


========


رغم ما كان الناس فيه من قسوة البيئة ومشاقِ العيش، إلا أنهم كانوا يحبون !

كان الحبُ والكتبُ واللعبُ والصَّحبُ، الواحةُ الندية في صهد بادية الشام التي تقف المفرق على حدّ سيفها.

كانت المفرق كلها تتداول برِفْق، عشرات قصص الحب العذري البريئة الدرامية، التي انتهت أكثرُها كما هو متوقع، نهايات صادمة حزينة، خلّفت ندوبا في قلوب الشباب والعذارى (اشرت في الحلقة 13 يوم 2021.4.27 الى حالتي حب حصلتا مع الكاتب فايز محمود و عبد الوهاب البغدادي).

كان الحُب هو حب الرسائل المعطرة والقلوب الحمراء المرسومة على الورق بالدم أحيانا.

كان الشباب يدسّون الرسائل في شقوق الجدران او في أرغفة الخبز او يلقونها من فوق أسوار المنازل او يسقطونها على الأرض، إلى الفتاة التي تتبعهم على بعد كيلومتر او أكثر. على طريقة عمر بن أبي ربيعة:

إِذا جِئت فَاِمنَح طَرفَ عَينَيكَ غَيرَنا،

لكَي يَحسِبوا أَنَّ الهَوى حَيثُ تَنظرُ.


=================


يستخدم العراقيون، رجالا ونساء كلمةً جميلة هي «عيني» التي لم يسمعها شباب الأردن تلك الأيام من صبايا الأردن تلك الأيام. وهي بالمناسبة كلمة قرآنية.

قال تعالى: "فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا".

في المفرق، على طريق بغداد- دمشق- عمّان، قرب سلسلة المطاعم الشعبية المتخصصة في خدمة الحافلات والشاحنات والمركبات، العابرة ذهابا وإيابا، توقفت حافلةُ الحجاج العراقيين.

في تلك اللحظة الجميلة، كنت أعبر إلى الجهة المقابلة، حيث ملعب كرة القدم، حين أخرجت سيدةٌ جميلةٌ نصفَ رأسها من نافذة الحافلة، فتجلّت لي ملاكا، ذا عينين رحبتين أسطوريتين، بحجم القمر في تمامه.

كنت صبيا في الرابعة عشرة، في أول تفتح الرجولة وربيعها وإقبالها واقتحامها.

قالت لي السيدةُ العراقية الملاك، بغنج امرأةٍ لمست نقطةَ ضعف محدثها الفتى الأسمر النحيل:

شنو اسمك عيني !!

اختبطتُ. هبلتني السيدةُ. لحست عقلي.

السيدة ذات أجمل عينين خلقهما الله تقول لي عيني ! لي أنا تقول عيني.

كانت تلك أول مرة تقولها لي فتاةٌ أو سيدة بهذا الحسن أو بنصفه أو بربعه؟

قلت وأنا ارتعد: اسمي محمد. أنا محمد حسن سليمان الداودية.

قالت وهي تفرط في الدلال والابتسام: عيني أبو جاسم، ممكن موي بارد.

ويلي، للمرة الثانية تنفحني هذه السيدة الفاتنة، التي أحبّها الله، فخلقها في أحسن تقويم، كلمةَ عيني.

لم أدخل في غيبوبة، دخلت في الدهشة والرفرفة. أجنحة زهو أخذت تنبت لي.

أجبتها بفرح متدفق، وأنا لمّا أزل في تمام الانبهار والانتشاء:

طبعا. طبعا. دقيقة «عيني» ويكون الماء البارد بين يديك.

وثبتُ كالنّمر. أحضرت لها أبريقَ ماء مليئا بالثلج، وضعت فيه وريقات نعنع وقطرات ليمون وقطرات من ماء الورد، من مطعم المعلم سالم الشاويش أبو سيدو القريب، الذي كنت أعمل فيه في العطل الصيفية.

انتبهت السيدة الفاتنة إلى أنني أكاد أنهار. وأنني بدأت أتداعى. وأنني أخذت أذوب من فرط إعجابي بعينيها، فمنحتني إياهما طويلا طويلا لعلها 10 ثوانٍ، كانت أكثر من كافية، لتظل عيناها السخيتان في خاطري 60 عاما، منذ ذلك اليوم الجميل إلى هذا اليوم الجميل.

أنا، ما أزال إلى اليوم احتفظ بطراوة صوتها الناعم الباذخ الرطب السخي، ذي الطبقات المتدرجة الملونة كقوس قزح، القريب من صوت محبوبات جيلنا سعاد حسني وهدى سلطان وفاتن حمامة.

وما أزال احتفظ بعينيها السوداوين المتوهجتين في منطقة بمحاذاة القلب. وما أزال احتفظ بدهشتي من كثافة شعرها الفاحم المضفور.

وها أنذا، أستحضر بسمتها الكريمة الخفيفة. وذراعها البض المزدان بإسوارة ذهبية ناعمة. وقميصها نصف الكم الخفيف المقلم باللونين الأبيض والأسود. وعباءتها السوداء الشفافة. وحبيبات العرق الذهبية على جبينها الأسمر.

لقد أوشكتُ ان استجمع شقاوتي، لأَثِبَ إلى نافذة الحافلة، فأمسح حبيبات العرق عن جبينها بطرف قميصي النظيف.

عندما أخذت الحافلةُ تتحرك، وسط حسرتي التي قبضت قلبي، سألتها وأنا أعدو خببا بمحاذاة الحافلة: شنو إسمِك «عيني»، شنو إسمِك؟

أخرجت كامل ذراعها البض من النافذة ولوّحت لي بلا توقف وهي تقول: فاطمة عيني، فاطمة.

يا لكرم هذه الحاجة العراقية، يا لعذوبة فاطمة.

أنا ما أزال اذكر فاطمة بكامل روائها وبهائها وغضاضتها ونداوتها وسطوة عينيها المبتسمتين الباذختين، كلما سمعت المطرب العراقي سعدون جابر ومطربين عراقيين اخرين يغنون "يم العيون السود ما جوزن انا، خدك القيمر انا اتريق منه".

مواضيع قد تهمك