د. صلاح جرار : في مفهوم الهزيمة

ليس من السهل ولا من المنطق ولا الحكمة أن يسارع أيّ متابع للأحداث في أيّ مكان أن يقرّر أنّ هذا الحدث أو ذاك يمثّل هزيمة لهذا الطرف أو ذاك، فللهزيمة علاماتها ومواصفاتها الدقيقة التي لا تؤخذ بظواهر الأمور ولا بما تتداوله وسائل الإعلام العالميّة ولا باستنتاجات ذوي النفوس المحبطة ولا بتمنيّات ذوي النفوس الحالمة، فالهزيمة ليست حدثاً محصوراً بزمانٍ ومكانٍ وعددٍ من القتلى والجرحى، بل هي حالة من الاستعداد والقابليّة، فمن الناس من إذا فرضت عليه الحربُ أو المعركة يعلن هزيمته قبل أن يخوضها بسبب ما لديه من عدم الثقة بالنفس واستعداده لتقبّل الهزيمة، اعتقاداً سابقاً منه بأنّ لدى عدوّه من القدرة والقوّة وإحكام التخطيط ما يضمن له تحقيق أهدافه، وقد يكون هذا المهزوم نفسيّاً ضحيّةً للحرب النفسيّة والإعلاميّة التي يشنّها عليه عدوّه، ولذلك تجده موقناً بالهزيمة على يد عدوّه، وربّما يكون هذا الموبوء بداء عدم الثقة بالنفس ممّن يملك إمكانيات تحقيق النصر على عدوّه لكنّه عند بدء المواجهة يتخيّل هزيمته ويلقي سلاحه طواعية ولا يتردّد في إشهار هزيمته وعدم قدرته على مواجهة العدوّ تحت ذرائع كثيرة يبدع في اجتراحها. وفي رأيي أنّ هذا النوع من الهزيمة لا ينبغي أن يصنّف على أنّه نصرٌ للعدوّ، فالنصر لا يكون إلاّ في حرب متكافئة أو مواجهة حقيقية.
ومن الظواهر المثيرة للاستغراب والعجب أن تقع الهزيمة على من لم يكن مشاركاً في حربٍ أو مواجهة أو على من يكون متابعاً ومراقباً عن بعد لحرب جارية، وهذا هو أبغض أنواع الهزيمة الطوعيّة، وإذا سألت من وقعت عليه هذه الهزيمة أو من اختارها لنفسه عن سبب إعلانه الهزيمة والاستسلام دون أن يطلب منه ذلك، أجابك بالكثير من الحجج والذرائع والتحليلات والتوقّعات ومقتضيات العقل والحكمة والمنطق والمحاججة حتّى إنه قد يعاديك عداءً بالغاً إذا استنكرت عليه فعلته ومواقفه.
وفي الوقت الذي يسارع فيه من ليس طرفاً في الحرب أو المواجهة إلى إعلان هزيمته واستسلامه، يكون المنهمك في الحرب ومواجهة العدوان يبدي كلّ صور البطولة والشجاعة وإلحاق الأذى بالعدوّ دون أن يُظْهر أيّ علامة للضعف والتراجع والتنازل حتّى وإن قتل أهله وهدم بيته وحُرم من الماء والغذاء والدواء والهواء وكلّ مقوّمات الحياة.
وللهزيمة علاماتٌ ودلائلُ ليست مرتبطة بشكل أساسي بكميّة الأسلحة التي يمتلكها كلّ طرف من الطرفين المتحاربين ولا بنوعيّة هذه الأسلحة ولا بعدد الضحايا المدنيّين الذين يسقطون عند كلّ طرف ولا حجم الخراب والتدمير الذي يلحق بكلّ طرف، فهذه كلّه أدوات ضاغطة على كلّ طرف لكنها ليست علامات على الهزيمة أو الانتصار، وأعظم شاهد على ذلك العدوان الصهيوني الغاشم على غزّة، ففي هذا العدوان رغم شراسته وتنوّع أدواته ووسائله ومصادر دعمه، فإنّ المقاومة التي تتصدّى لهذا العدوّ لم تظهر أيّ علامة من علامات الانكسار أو الهزيمة أو الاستسلام أو الرضوخ لمطالب المعتدين، وفي المقابل فإنّ ثمّة علاماتٍ على إحساس العدوّ بإخفاقه وعدم تمكّنه من تحقيق أهدافه واقتراب هزيمته.
ومن هذه العلامات إصرار العدوّ الصهيوني على التعتيم على أخبار قتلاه وجرحاه في العمليات الفدائية الناجحة، وقد دأب العدوّ على ذلك في كلّ العمليات التي يسمّيها (حادثاً أمنياً خطيراً)، فلو كان الجيش الصهيوني منتصراً لما أثّر فيه مصرع جنديّ أو جنديّين هنا أو هناك، فالمنتصر لا يتردّد في الاعتراف بعدد قتلاه وجرحاه، أمّا لجوء الجيش الصهيوني إلى فرض تعتيم على خسائره فهو دليلٌ على الهشاشة النفسيّة لديه ولدى مجتمع المستوطنين، وهذه الهشاشة هي أهمّ مقدّمات الهزيمة.
ومن المؤشّرات التي تؤذن باقتراب هزيمة العدوّ الصهيوني اعتماده آلية المبالغة في تعظيم الإنجازات الصغيرة لدى الجيش والتقليل من شأن ما يصيبه من الخسائر، فمن ذلك استمرار رئيس الوزراء الصهيوني في الادّعاء بأنّه استطاع أن يغيّر وجه الشرق الأوسط برمتّه، وهو ادّعاء كاذب وموغلٌ في الكذب، وفي مقابل ذلك عندما يصيبُ صاروخٌ يمنيّ قلب تل أبيب ومطار اللّد فإنّه يصوّره على أنّه حدثٌ بسيط لا قيمة له وأنّ أيّ مصابٍ صهيوني في مثل هذه الحوادث ما هو إلاّ نتيجة تدافع أو هلع. وهذه الآلية التي يستخدمها الإعلام الصهيوني والرقابة العسكرية في الجيش الصهيوني هي آلية المهزومين والذين يتوقّعون الهزيمة قريباً.
ومن المؤشّرات التي تنبئ عن اقتراب هزيمة العدوّ أيضاً، وهو مؤشر مهمّ جدّاً، أن يلجأ هذا العدوّ إلى قتل الأطفال والرضّع والنساء والمدارس والمستشفيات وتجويع من بقي منهم على قيد الحياة لكي يموت جوعاً وعطشاً ومرضاً، فالمنتصر لا يحتاج إلى ارتكاب مثل هذه الجرائم الشنيعة، والعاجز هو الذي يبحث دائماً عن الهدف الرخو كي يقنع نفسه بتحقيق شيء من أهدافه.
ومن أهمّ العلامات على الشعور بالهزيمة لدى العدوّ الصهيوني ارتفاع وتيرة التهديدات التي يطلقها للمقاومة وللدول العربيّة يوماً بعد يومٍ، وذلك أنّ التهديد والوعيد بالتدمير والقضاء على الخصم ما هو إلاّ صورة من صور التعويض عن الشعور العميق بالهزيمة أو اقترابها.
وإلى جانب ذلك توجد إشارات وعلامات كثيرة على أنّ العدوّ الصهيوني يعاني في أعماقنفسه من هزيمة محقّقة، وأنّ كلّ ما يمارسه من الإبادة والجرائم ضدّ الإنسانية ما هو إلاّ تعبير عن العجز ومحاولات للتغطية على هذه الهزيمة.
Salahjarrar@hotmail.com